U3F1ZWV6ZTIwMTU5Nzc5NjQ2Nzg5X0ZyZWUxMjcxODUzMjIzNDU3Nw==

الثورة الفرنسية

 

 الثورة الفرنسية

 


 الثورة الفرنسية

تقسيم تقليدي للمجتمع الفرنسي
1-   الطبقات الارستقراطية الإقطاعية.
2-   الطبقة البرجوازية الثرية.
3-   العامة أو الطبقة الثالثة
الإدارة الحكومية
الملكية الفرنسية
الظروف الممهدة للثورة الفرنسية
الثورة
قائـمة المراجع المعتمدة


الثورة الفرنسية واحدة من الثورات الكبرى العالمية التي أعطت مفاهيم جديدة للعالم، و وضعت في حيز التنفيذ مبادئ عامة كانت قبلها مجرد نظريات، فخلالها بدأ النظام القديم في فرنسا يتحطم، و يظهر على أنقاضه نظام جديد، و كانت الطريق التي سار فيها النظام القديم نحو حتفه قد بدأت منذ وقت طويل قبل الثورة الفرنسية، كما أن الأسس التي قام عليها النظام الجديد كانت قد بدأت تظهر قبل أن تندلع الثورة نفسها في 1789، فقيمة هذه السنة – التي اندلعت فيها الثورة الفرنسية – هي أنها بداية لفترة لم يعد فيها النظام القديم قادرا على الاستمرار و البقاء، و أصبح فيها التغيير و خلق نظام جديد من الأمور الحتمية.

و هناك تقسيم تقليدي للمجتمع الفرنسي قبيل الثورة الفرنسية على النحو التالي:

1-   الطبقات الارستقراطية الإقطاعية.

2-   الطبقة البرجوازية الثرية.

3-   العامة أو الطبقة الثالثة.

 

1-الارستقراطية الإقطاعية:

نقصد بالارستقراطية الإقطاعية: طبقة النبلاء و الإكليروس، و النبلاء قبيل الثورة الفرنسية يختلفون اختلافا جوهرسا عن نبلاء فرنسا خلال العصور الوسطى، كانوا في تلك العصور الوسطى قوة قادرة على أن تفر نفسها على الملكية، و كانت فرسنا مقسمة بين النبلاء، على كل إقليم نبيل يحكمه أو أمير، و لكن استطاعت الملكية الفرنسية أن تتغلب على هؤلاء النبلاء، و أن تجمع السلطات بين يديها، و أن تضع فرنسا تحت حكم مركزي ملكي مطلق.

و بعد أن أصبحوا على هذا النحو من الضعف، لم يعد يضير الملكية أن تبقى هؤلاء النبلاء على شكلهم الرفيع المتميز كمظهر من مظاهر عظمة البلاط، كما أن والفكر في نهاية العصور الوسطى كان يقبل إخضاع هؤلاء النبلاء للملكية و يعمل على سحب امتيازاتهم العامة، و لكن دون الاتجاه إلى إلغاء هذه الطبقة، فظلوا يمثلون طبقة في فرنسا لها امتيازاتها و لها مكانتها، و كانت أهم الميزات التي ظلوا ويتمتعون بها هي احتكار الرتب العالية في الجيش و بعض الوظائف العليا في دوائر القضاء، كما كنت لهم في الأرياف اقطاعات واسعة تدر عليهم دخولا كبيرا، بل لقد كانت خمس أراضي فرنسا اقطاعات يملكها النبلاء، و هؤلاء النبلاء من أصحاب المناصب العليا العسكرية أو القضائية و المدنية، أو من أصحاب الإقطاعات الواسعة هم القسم الثري من أرستقراطية النبلاء.

و كان هؤلاء النبلاء إلى جانب هذا الثراء يتمتعون بإعفاءات ضرائبية لمجرد أنهم من طبقة النبلاء، كما أنهم ظلوا متحفظين ببعض الضرائب الإقطاعية التي لم يعد لها أي معنى سوى أنها باب من أبواب جمع الأموال لخزائن النبلاء. و كانت هذه الإعفاءات تجعل دخل النبيل كبيرا من أرضه، و كان العديد من النبلاء من أصحاب الإقطاعات الكبرى لا يفكرون في وسيلة للحصول على الأموال إلا عن طريق جباية (حقوقهم إىلى أقصى درجة ممكنة، فكانوا لذلك يتمسكون تمسكا شديدا بتلك الإعافاءات الضرائبية، و بطبيعة الحال بكافة (حقوقهم)، بل كانت تستخدم أساليب قاسية لإبتزاز الأموال من الفلاحين.

و لكن استطاع بعض النبلاء من أصحاب الإقطاعات أن يكتشفوا قيمة استخدام العلم الحديث في تطوير أساليب الزراعة، و في زيادة الإنتاج، و هذا الاتجاه لا يجدم النبيل من حيث إضافة دخل جديد إلى خزينته و إنما يجعل فكره أكثر تطورا، و يجعله أكثر استعدادا لتقبل مفاهيم جديدة للعصر، و أن مهمة النبيل ليست بقاصرة على شراء الإقطاعات و الحفلات الرسمية و غير الرسمية، و إنما أيضا المساهمة في عمليات تطوير الإنتاج و المشاركة في هذه العمليات مشاركة فعالة.

لم يكن كل النبلاء يملكون إقطاعات زراعية واسعة، بل هناك الكثير ومنهم ممن كانوا نبلاء لا يمتلكوا عقارا أو أرضا، و كانت الغالبية العظمى من هؤلاء النبلاء يعيشون على الأرزاق و الهبات و الإعانات التي كان يرصدها الملك لهم إبقاء على مظهرهم، و على الأقل، كان هناك حوالي أربعة آلاف نبيل يقيمون في بلاط فرساي، متمتعين بترف زائد، بعضهم ممن له دخول كبيرة من ممتلكاته و مع هذا كانت الملكية تغذق عليه بالأموال، و البعض الآخر لم يجد من وسيلة للحياة المترفة سوى الارتباط بالقصر و الاعتماد على هباته.

و بصفة عامة كانت ظاهرة البطالة قد ارتبطت بكثير من النبلاء و ملأ هؤلاء المدن، و خاصة العاصمة باريس، بمآسي أخلاقية و مالية محتمين وزراء ألقابهم و انتصار الملكية لهم، حتى لقد وصفهم أحد مفكري الثورة الفرنسية بأنهم ليسوا من الأمة الفرنسية، و إنما هم طبقة غريبة عنها.

كانت مظاهر الترف باهظة التكاليف، بل كانت نفقات الترف تتصاعد سنة بعد أخرى، فكانت حاجاتهم إلى الأموال متزايدة، و بحثوا عنه في كل مجال و حينذاك كانت البرجوازية الفرنسية قد نمت، و أصبحت هناك أسرات منها على جانب كبير من الثراء، فكان النبلاء (الفقراء) يلجئون إلى الاقتران من بنات هذه الأسر الثرية، أو بمعنى آخر بدأ نوع من التقارب بين النبلاء و البرجوازية، و حيث أن الفكر التقدمي كان أكثر انتشارا بين البرجوازية، أصبحت مجموعات من النبلاء على صلة وطيدة بهذا الفكر ثم أخذت تعتنق اتجاهاته التي تتناقض تماما مع فكر و تقاليد طبقة النبلاء.

لقد كانت حاجة النبلاء إلى المزيد من الأموال، و ظهور الثراء على البرجوازية الفرنسية و عدم القدرة على الحصول على مبالغ متضاعفة من الإقطاعات الزراعية، كل هذا جعل العديد من النبلاء يفكرون  في أن يتبعوا نفس السبيل الذي سارت فيه البرجوازية، و حيث أن البرجوازية كانت قد أصبحت على خبرة و مهارة في أعمال المال و التجارة، وجد هؤلاء النبلاء أن في توظيف بعض أموالهم في مشاريع مشتركة مع البرجوازية يعود عليهم بالدخل الوفير.

و بصفة عامة كان النبلاء من أصحاب الإقطاعات في أرياف فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر يتجهون بسرعة نحو مستويات أدنى في مدخولاتهم  ، حتى لقد كان من الأمور المعتادة في الأرياف أن يوجد قصر كبير – لنبيل، له اسمه و أ|لقابه العظيمة – خاو على عروشه، لا يجد صاحبه المال الكافي للمحافظة عليه، و إنما يتمسك به كمظهر من مظاهر النبالة و عراقة المحتد.

كما كان نبلاء قصر فرساي متورطين في الديون، و في المشاكل الاجتماعية و السياسية حتى غدت فضائحهم حديثا يوميا فهوت مكانتهم في أعين الناس في الوقت الذي كانت فيه جماعات الفلاحين تئن بمرارة من قسوة الضرائب العديدة – غير المفهومة – التي كان يجمعها النبلاء الإقطاعيون منهم.

و هكذا كانت طبقة النبلاء عبارة عن مجموعات بعضها ثري، و بعضها فقير، و البعض الآخر بدأ يقترب من البرجوازية، و بالتالي كانت طبقة بالاسم، فهي في حقيقتها مفككة ضعيفة، كان النبلاء الفقراء يبغضون بمرارة الأثرياء منهم، و كانت جماعات النبلاء التي ارتبطت بالحركة البرجوازية شديدة النقد للملكية المطلقة، و لذلك عندما وصلت الأزمة إلى ذروتها و وقعت الثورة لن نجد طبقة من النبلاء متراصة الصفوف ضدها، و إنما سنجد قسما من النبلاء وضع يده في يد الثوار.

   2-الطبقة البرجوازية الثرية

أما الإكليروس فهو الآخر يتمتع بثراء زائد لدى قلة من رجاله، بينما الغالبية العظمى من رجال الدين كانوا يعانون من فقر شديد، فمدخول اسقف ستراسبورج – على سبيل المثال – يعادل خمسمائة مرة دخول خوري بسيط.

و كان ثراء الإكليروس و الكنيسة يرجع إلى جباية العشر المفروضة على الملكية العقارية، و كانت أراضي الكنيسة إلى جانب ذلك معفاة من الكثير من الضرائب، فضلا عن الامتيازات السياسية و القضائية التي كان يتمتع بها كبار رجال الدين. كان ثراء رجال الدين يثير مشاعر المثقفين كما كان يسبب الكثير من الآلام للفلاحين، و لربما يرضى الفلاح الفرنسي عن ذهاب الكثير من الأموال إلى الكنيسة و إلى أيدي رجالها لو كان هؤلاء الرجال على تدين حق، و لكن الذي حدث خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر أن رجال الكنيسة – و الكبار منهم بصفة خاصة – كانوا يتصرفون تصرف الأمراء، و كانوا مسرفين في الإنفاق على مظاهر العظمة و الترف و مسرفين في الفضائح الأخلاقية التي هوت بسمعتهم كثيرا و قضت على مكانتهم بين الشعوب.

و إلى جانب هذا كله كان الإكليروس الكاثوليكي حينذاك شديد التعصب، و لم يعد يطبق أو يأخذ – إلى حد كبير – بالتشريعات و الاتجاهات العامة التي كانت تدعوا إلى التسامح الديني نحو الطوائف المسيحية الأخرى، و بوجه خاص البروتستنت، و لهذا أصبح هذا الإكليروس هدفا للنقد الشديد من عدد من كبار مفكري العصر، و على وجه الخصوص فولتير، فقد شن فولتير هجوما لاذعا سديد القساوة على تعصب الإكليروس الكاثوليكي، و لم تعد الكبيسة الكاثوليكية أن تقضي على أفكاره في فرنسا، فقد كان المواطن الفرنسي يجد لذة في قراءة كتابات فولتير التي يهاجم فيها الكنيسة و يكشف أموراها أمام جماهير تتطلع بنهم و غضب شديد إلى ثراء رجال الدين.       

3-الطبقة الثالثة:

تمثل الطبقة الثالثة أغلبية السكان العظمى، و هذه الطبقة كات أقل تمتعا بإمكانيات العصر الذي يعيشون فيه بل لقد كانوا قبيل الثورة الفرنسية هم المسؤولون عن تزويد الملكية و الأرستقراطية بالأموال دون أن يشاركوا في أمور الحكم و الإدارة إلا بواسطة أقلية برجوازية – خرجت من هذه الطبقة الثالثة – استطاعت أن تشق طريقها إلى المناصب العليا و إلى مستويات عالية من الثراء عن طريق الأعمال المالية و التجارية.

و هناك من يقسم الطبقة الثالثة نفسها إلى عدة أقسام:

1-   من لا يملك إطلاقا من أهل الأرياف.

2-   القرويون ممن يملكون مساحات صغيرة من الأرض.

3-   ملاك العقارات المتوسطة.

4-   البرجوازية العليا.

 

و كان القرويون و الأقنان يمثلون من لا يملكون شيئا من العقارات، و يعتمدون على سواعدهم في الحصول على رزق يومهم، إما عن طريق الأجر اليومي، أو عن طريق المشاركة (المزارعة) في زراعة الحبوب و إنتاج المحاصيل لدى ملاك الأراضي، و نظام الزراعة هذا كان شائعا في فرنسا في الأراضي الفقيرة دون الأراضي الغنية، و من هنا كان المدخول السنوي للقروي ضئيلا، لا يجعله قادرا على مواجهة أية أعباء معيشية جديدة يجد نفسه أمامها.

و إلى جانب هؤلاء القرويون الأحرار، يوجد عدد من الأقنان (العبيد) يبلغون حوال 1/20 من سكان الريف، حقيقة كانت القيود المفروضة على هؤلاء الأقنان أقل من تلك التي كان يرزخ تحتها القن في العصور الوسطى، إلا أن هذه القيود المتبقية كانت – في الربع الأخير من القرن الثامن عشر – تعتبر قاسية بالغة القسوة، و يكفي أنه كان للنبلاء حق استرداد القن إن هو عمد إلى الفرار منه، فضلا عن بقايا القيود الإقطاعية التي استمرت سارية المفعول منذ عدة قرون، و لقد أدرك المصلح الفرنسي المشهور نكر خطورة هذه المشكلة فخفف من القيود التي كان يئن تحتها (القن).

و هؤلاء القرويون و الأقنان كانوا أشد الفئات تعرضا للأزمات الاقتصادية التي كانت تحل بفرنسا، و حيث أن اقتصاديات فرنسا كانت زراعية، فإن أزمتها الاقتصادية كانت في الغالب نتيجة لهبوط مستوى الإنتاج بسبب القحط أو المناخ أو الآفات، ففي الأراضي التي يزرعها القروي مناصفة مع مالكها، يجد نفسه و قد خرج بمحصول صغير، في الوقت الذي تكون فيه الأسعار – في مثل هذه الظروف – قد ارتفعت بسرعة لا يحتملها أمثال هؤلاء القرويين، مثلما حدث في 1788.

أما الملاك القرويين ممن يملكون قطعا صغيرة من الأرض، فكانوا مستقرين – إلى حد ما – اقتصاديا، لديهم دخل يبقيهم بعيدين عن شبح الفقر و المجاعة و قد يرفعهم إلى مستوى اجتماعي (مرموق) في مجتمع القرية.

كان القروي فقط هو الذي كان يدفع ضريبة الرأس و ضريبة الملح و ضريبة الإيراد هي أشد الضرائب عبئا على أبناء الطبقة الثالثة بصفة عامة كانت ضريبة الرأس[1] تفرض بواسطة الملكية، و هي التي تحدد القيمة المطلوبة من الرعية و يتولى الجباة – بما عرف عنهم من فظاظة – جمع هذه الضريبة.

و من أشد الأعباء المالية التي كانت تثقل الفلاح الفرنسي – إلى جانب ضريبة العشر التي تجبيها الكنيسة ضريبة الملح، و كان الملح احتكارا حكوميا، و نظرا لأن هذه الضريبة كانت تمثل دخلا رئيسيا لخزينة الدولة اهتمت الدولة بجمعها و التغالي في فرضها، و لكن الأسوء من هذا هو أن جباة الضرائب الملح كانوا يجمعون من الطبقة الثالثة ضريبة الملح بكل قسوة ليحصل هؤلاء الجباة على قسم ليس باليسير منها لأنفسهم، و يودعوا الباقي في خزينة الدولة.

أما ضريبة الإيراد فكانت مفروضة على الجميع، و كانت تسمى ضريبة (العشرينية)، إلا أن الطبقة الأرستقراطية استطاعت أن تتخلص منها لتظل مفروضة على الطبقة الثالثة، و كانت شديدة الوطأة – بطبيعة الحال – على الفلاحين و الأجراء و الحرفيين عن أي جماعة أخرى، بل لقد عرف الإكليروس كيف يعفى نفسه منها، و كذلك أعفى منها النبلاء.

و إلى جانب فداحة ضرائب (الرأس، العشرينية و الإيراد) كان الأسلوب الذي اعتمدت عليه الملكية في جمع هذه الضرائب في منتهى السوء و الغجحاف بالرعية، إذ كان المتبع زهو نظام (الالتزام) أي أن يتولى أحد الرأسماليين التزام الضرائب فيقوم هو بجمعها و يحصل هو من وراء ذلك على أرباح طائلة و كان أن بالغ الحياة في تحصيل الضرائب، و ما هو فوق هذه الضرائب بحيث أصبح مجموع الأعباء الضريبية على الفلاح أو القروي الفرنسي يمثل شطرا كبيرا من دخله المتواضع.

بالإضافة إلى هذه الضرائب الرئيسية، كانت توجد ضرائب أخرى عديدة مفروضة على القرويين بصفة خاصة، و كانت التزاماتهم نحو النبيل تمثل كذلك عبئا كبيرا على أهل الريف، بل كان عبئا متصاعدا، فازدياد السكان، و نمو القرى و المدن، و نمو حركة التجارة الداخلية أدى إلى زيادة مستمرة في الحاجة إلى تمهيد طرق برية جديدة، و حيث أن القرويين كانوا ملتزمين بأن يسخروا و تالفي مثل هذه الأعمال، فقد ضيروا كثيرا لتزايد هذه الأعمال دون أن تراعي الحكومة أحوالهم المعيشية المتدنية.

هذا عن الأرياف، أما عن المدن فكانت فيها مستويات من البشر تعيش بالأجر اليومي – و هي الأغلبية – و مستويات أخرى تمثل الأقلية – تعيش على دخل كبير سنوي من أعمالها التجارية أو المالية أو من وظائفها العالية، و هذه الأخيرة هي البرجوازية.

كان الأجراء في المدينة أشد بؤسا من القرويين في الريف، فالروابط الاجتماعية في القرية تقلل بعض الشيء من متاعب القروي الحادة، و لكن في المدينة لا يوجد مثل هذا التضامن الاجتماعي إلا في حيز ضيق جدا.

و مما زاد من مشكلات العمال و العاملين بالأجر اليومي و الحرفيين في المدينة أن الأسعار في المدينة كانت ترتفع بسرعة، في نفس الوقت الذي كانت فيه الأجور ثابتة أو تقل عن ذي قبل، و ضاعف من هذه المشكلات أن فرنسا كانت تواجه زيادة مستمرة – على توالي سيء القرن الثامن عشر – في تعداد السكان.

        بل لقد حدث هبوط في قيمة أجور الفلاحين و العمال في المدن، الأمر الذي جعل أيامهم سلسلة من القلق و المخاوف، و الكراهية المتصاعدة لهؤلاء الأثرياء و للأرستقراطية (النبلاء و الكنيسة) التي كانت تلزم القروي بكافة التكاليف و الأعباء و الضرائب المفروضة عليه بغض النظر عما تصير إليه حالته في سنوات الأزمات الاقتصادية.

بل أن البرجوازية العليا – و هي التي خرجت من الطبقة الثالثة – كانت أحيانا، و خاصة في مجالات التجارة، هي المسؤولة عن رفع أسعار الحبوب و بعض ضروريات الحياة، إذ أن البرجوازية التجارية كانت تعنى فقط بزيادة أرباحها بغض النظر عما يتعرض له الشعب من ارتفاع الأسعار.

و لقد كانت أرباح البرجوازية العاملة و مجالات التجارة و المال كبيرة جدا، و ساعد على ذلك رواج و تصاعد في حجم الإنتاج الفرنسي المصدر إلى الخارج، فضلا عن نمو الحركة التجارية العالمية خلال القرن الثامن عشر الأمر الذي جعل التجارة مصدر أرباح ضخمة للمشتغلين بها، و كانوا من الطبقة الثالثة.

و من البرجوازية العليا كذلك رجال القانون،و الأساتذة و المحامون و الأطباء. و يمكن أن نصنف هؤلاء أيضا بأنهم يمثلون ذروة الثقافة التقدمية حينذاك و بذلك تكون البرجوازية قد جمعت بين قوة المال و قوة الفكر. و كان هؤلاء جميعا – الأثرياء فكرا، و الأثرياء مالا – يعارضون في وجود تلك الأرستقراطية التي تحتكر المناصب العليا في الدولة و الجيش دون مبرر سوى تقاليد مستمدة من الماضي، و سوى تعلق الملكية بتلك الحاشية من النبلاء الجوفاء المكلفة غير المفيدة للبلاد.

كان رجالات البرجوازية العليا ينظرون إلى أعلا فقط، و إلى أن يحلوا محل أولئك النبلاء الذين فقدوا كافة مواصفات القيادة أو الإدارة أو الحرب. هذا بينما كانت البرجوازية ترى أن لديها الإمكانيات اللازمة لإدارة أمور البلاد بشكل أحسن من ذلك الطراز الذي أدى إلى تدهور البلاد عسكريا و اقتصاديا خلال عهد لويس الخامس عشر.

الإدارة الحكومية

تتكون الإدارة أو المؤسسات الحكومية صاحبة الحق في الحكم و الإدارة، و القضاء و الدفاع عن البلاد في النظام القديم من المؤسسات الرئيسية التالية:

1-    الملكية

2-    المؤسسات البريطانية و المجالس

3-    الإدارة

4-    القضاء

5-    الجيش

الملكية الفرنسية

تعتبر الملكية الفرنسية من أقوى الملكيات في أوربا خلال عصر النهضة الأوربية حتى عهد لويس السادس عشر . كان الملك رالفرنسي يحكم باسم الحق الإلهي، هو الذي يصدر القوانين ، و هو الذي يعلن الحرب ، و يعقد السلم ، و كانت لديه سلطات تجعله فوق القضاء إذ كان بمثابة "قاضي المملكة الأكبر" يستطيع أن يعفو عن مجرم عاقبته المحكمة ، و يستطيع أن يلقي بما يشاء في حبس متواصل دون محاكمة ، و كان هو الذي يعين الوزراء و هو الذي يعزلهم دون أي مساءلة.

كان الملك يخصص له و للملكة و الحاشية و البلاط مبالغ ضخمة . و كانت هذه المبالغ في نظره و نظر حاشيته هي أقل ما يمكن القبول به . و كانت ظروف العصر تفرض على الملكية و الأرستقراطية تقاليد معقدة، و حفلات صاخبة باهضة التكاليف . و كان البلاط الملكي منغمسا في الفضائح المدوية . و كانت صالونات باريس العديدة – التي تجمع بين الأرستقراطية و البرجوازية- مكانا يتندر فيه علية القوم بما يدور في القصور الملكية من مهازل . و كانت الملكية تعتقد أن مثل هذه الأمور مادة للتسلية و الحديث طالما كانت قوية، و أن مثلك تلك المخازي – عندما تضعف الملكية – ستكون عاملا جوهريا من هوامل إثارة السخط العام ضدها.

و هناك شبه إجماع – لدى مؤرخي فرنسا و الثورة الفرنسية – على أن لويس السادس عشر – ملك فرنسا (1774-1491)- كان شخصية لا بأس بها و لكنه وجد نفسه في ظروف غير ملائمة لطبيعته و أفكاره و قدراته، فأصبح عليه أن يفكر عن أخطاء أسلافه.

و لعبت زوجته ماري أنطوانيت دورا كبيرا في إضعاف شخصية زوجها، لقد كانت ابنة ماريرا تريزا، إمبراطورة النمسا المشهورة، و مع أنها كانت محبوبة من الشعب الفرنسي في أول يالأمر، إلا أنها كانت شديدة الإعتداد بنفسها، و أقحمت في مؤامرات تعيين و عزل الوزراء، و في توجيه سياسة البلاد، و أشاعت من حولها – أو أشاع نبلاء القصر حولها – الكثير من القصص، و كانت القصص الخيالية التي تحال أحيانا حول ماري أنطوانيت تجد آذانا مصغية لدى جماهير الشعب الفقيرة التي كانت ترى الملكة و هي تشتري قصرا من أغلى قصور فرنسا – قصر سان كلو – في الوقةت الذي كان فيه الشعب يعاني من آثار المجاعة (1887-1888) و من ارتفاع الأسعار و البطالة، بل لن يلبث الشعب أن يرى فيها عدوة لمجرد أنها نمساوية الأصل، و لقد كانت الكراهية الشعبية للنمسا شديدة على اعتبار أنها مي المسئولة عن معظم الكوارث العسكرية التي تورطت فيها فرنسا خلال القرن الثامن عشر.

و لم تكن هناك مؤسسات برلمانية قوية تستطيع أن تحد من سلطات الملك، أو تراقب أعماله، فقد كانت محكمة باريس[2] مسئولة عن تسجيل القوانين التي يصدرها الملك، و لا تعتبر القوانين شرعية إلا إذا سجلت فيه، و هذا الحق كان يعطى برلمان باريس فرصة لمنع الملك من إصدار قوانين مجحفة، و لكن خلال الفترة الواقعة بين عهد الكاردينال ريشليو و لويس الخامس عشر كان برلمان باريس تحت السيطرة الكاملة لريشليو ثم للويس الرابع عشر، و فقدت الكثير من أهميتها و قيمتها حتى ضعفت مكانة الملكية على عهد لويس السادس عشر.

أما مجلس طبقات الأمة فكان هو الآخر من المؤسسات شبه البرلمانية التي توقفت عن القيام بمهمتها منذ مطلع القرن السابع عشر، و على يد الكاردينال دي ريشليو بالذات، فقد ركز هذا الكاردينال جهوده من أجل تقوية نفوذ الملكية على حساب مثل هذه المؤسسات.

كان مجلس طبقات الأمة قد أصبح نسيا منسيا في أواخر القرن الثامن عشر، و كانت تمثل فيه مختلف طبقات الشعب: الأرستقراطية بشقيها (النبلاء و الإكليروس) و الطبقة الثالثة (العامة)، لكل طبقة غرفة قائمة بذاتها، غرفة للنبلاء و أخرى للإكليروس و ثالثة للعامة، و كان يؤخذ التصويت على القرارات بأغلبية عدد الغرف، و ليس بأغلبية عدد أصوات المجلس، و معنى هذا أن الأرستقراطية كانت تتحكم في هذا المجلس لأنه كان لها غرفتان.

و من ناحية أخرى لم تكن لمجلي طبقات الأمة سلطة إصدار قرارات أو توصيات، و إنما كانت مهمته في أن يقدم كل عضو فيه قائمة أو بيانا (cahiers des doléances) عن شكاوى أو مطالب الدائرة التي انتخب عنها، و كانت كل غرفة (أي كل طبقة) تعد بيانا عاما بمطالبها و التماساتها تقدمه إلى البلاط، و بذلك تكون مهمة المجلس قد انتهت.

كان مجلس طبقات الأمة –على هذا النحو – عاجزا عن أن يتابع خطوات الحكومة في تنفيذ رغبات و التماسات الشعب، و لكن في جوهر تكوينه كانت تكمن مبادئ هامة، فهو أوسع مظهر من مظاهر تمثيل الشعب الفرنسي بأسره.

و من ناحية أخرى كان يتكون عن طريق الانتخاب العام، و سيكون لهذين المبدأين أهمية خاصة لدى مثقفي فرنسا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

و في الأقاليم كانت توجه مجالس إقليمية تجمع تحت سقفها الطبقات الثلاث، و كانت لديها حق التصويت على الضرائب حتى القرن السادس عشر، و من بعد ذلك قويت الملكية فقوضت قدرات هذه المجالس، و بذلك لم تكن هناك حياة برلمانية في الأقاليم، و عندما تدعوا الحاجة إليها سيكون ذلك على حساب الملكية بطبيعة الحال.

و كانت الإدارة الحكومية في حد ذاتها نقطة ضعف شديد في جنب  الملكية الفرنسية، و كانت هذه الإدارة تتبع الأساليب و النظم العتيقة، و لا تريد أن تطور نفسها رغم حوالي مرور القرون، لقد كانت البيروقراطية المتحجرة تتحكم في هذه الإدارة الحكومية، و كان من العسير أن تحطم البيروقراطية نفسها من أجل الإصلاح و من ثم كان لابد من قوة كبيرة تفرض على الإدارة فتحطم النظم القديمة لتخلق على أنقاضها نظاما حديثا متماشيا مع متطلبات العصر.

و من أكثر الهيئات الإدارية بغضا لدى الشعب تلك المجموعة الشرسة الطباع المعروفة باسم (وكلاء الملك) و كانوا مسئولين عن جمع ضريبة الرأس و ضريبة الإيراد ، و كانتا ضريبتين مكروهتين من الشعب، و كانت سلطاتهم واسعة، و كانوا أقوى من أن يخضعا لأية سلطة أخرى.

و كانت نظم الحكم المحلية و الإدارة تختلف من إقليم إلى آخر، إذ كانت فرنسا لا تزال مقسمة وفقا لتلك التقسيمات التاريخية القديمة التي حفظت لبعض المقاطعات امتيازات معينة و قوانين خاصة بها، حتى لقد قال فولتير في هذا أن القوانين تتغير في فرنسا في كل مرحلة من مراحل الطريق، كذلك كانت هناك جمارك داخلية بين هذه المقاطعة أو تلك، و كأن التاجر في تحركه من ولاية لأخرى ينتقل من (مملكة) لأخرى، بل لقد كانت هناك مظاهر بشرية مميزة لبعض الولايات الفرنية الكبيرة جعلت بعض المؤرخين يقولون أن ملامح الأمة البرتيانية – نسبة إلى إقليم برتياني – و ملامح الأمة البروفنسالية – نسبة إلى إقليم بروفانس – كانت لا تزال موجودة و بقوانينها و تقاليدها و لهجاتها.

كان القضاء بدوره يشكل شكلا متدهورا من أشكال النظام القديم، ففيما سبق كان الملك هو الذي يعين القضاة، و لكن لم يلبث القضاة أن أصبحوا يشترون مناصبهم من الملكية، الأمر الذي أصبح من المتعذر على الملك أن يعزل قاضيا اشترى منصبه، و ترتب عن ذلك أيضا أن حرض القضاة – الذين اشتروا مناصبهم – على أن يرثهم أبناؤهم في المنصب، و بالتالي أصبحت معظم المناصب القضائية وراثية، و أصبح من العسير على الملك أو حاشيته أن تفرض نفسها على القضاة.

و أما القوات المسلحة الفرنسية، فهي أقوى مؤسسة ملكية حكومية، و على أكتافها قامت فرنسا ببناء مجد عسكري كبير في داخل القارة الأوربية، و فيما وراء البحر، و كان الجيش الفرنسي هو مصدر قوة الملكية الفرنسية، فطالما أحرزت به الانتصارات ارتفعت في أعين الشعب، و ضحى من أجلها، و أعطاها من قوته من اجل ببناء جيش قوي منتصر، و خاصة على عهد لويس الرابع عشر، و لكن منذ معاهدة أوترخت (1713) – في أواخر حكم هذا الملك العظيم و منذ حرب السنوات السبع (1757-1763) – توالت الهزائم العسكرية الكبير على الجيش، و بالتالي مع الملكية، و كان لويس الخامس عشر يشعر بأن تلك الهزائم، و الاختلال في نظام الإدارة عين السيؤدي إلى أزمات كبرى، و كانت الأمور تحتاج إلى ملك قوي يستطيع أن يعيد للملكية الفرنسية مكانتها بين بلاطات أوربا، و هيبتها بين أفراد الشعب و لكن لويس السادس عشر كان على النقيض من ذلك.

إن فساد الملكية، و ضعف شخصية الملك، و اضطراب الإدارة، و القضاء،  وهزائم الجيش كلها أمور يمكن أن ينتظر لها حلا في المستقبل القريب أو البعيد، و لكن الشيء الذي أصبح الشعب يرفضه رفضا باتا هو أن يكون إنقاذ خزينة الدولة المفلسة على حساب طائفة دون أخرى، و بالذات على حساب الطبقة الثالثة، و من هان بدأت المشكلة التي واجهت لويس السادس عشر و وزراءه أن تولى هذا الملك السيئ الحظ العرش في 1774.

الظروف الممهدة للثورة الفرنسية

        كانت حروب القرن الثامن عشر قد استنفدت كثرا من أموال الخزينة حتى إذا ما اشتركت فرنسا في حربي الاستقلال الأمريكية أصيبت الخزينة بعجز مال كبير.

لقد بلغ العجز حوالي 20% من نفقات الحكومة، و رغم هذا العجز لم تتوقف حكومة لويس السادس عشر عن تقديم منح مالية كبيرة للغاية إلى (كونت داروا) و إلى (آل بولينياك)، كما تضاعفت حينذاك الديون مما زاد من موقف الحكومة دقة و حروجة.

        و أصبح على لويس السادس عشر أن يسند الشؤون المالية إلى رجل خبير نزيه يستطيع أن يجد وسيلة لتزويد الخزينة بالأموال، و لإصلاح الأمور المالية للبلاد حتى تستطيع أن تواجه متطلبات الملكية و الحكومة الملكية.

        اتجه لويس السادس عشر إلى تيرجو[3] -المراقب العام للمالية – و كان الرجل من اصحاب الفكر المستنير، و من أصحاب الخبرة في ميدان العلاقات الدولية و الاقتصادية و السياسية، و كانت وجهة نظره في إصلاح أمور البلاد الاقتصادية لمواجهة العجز الذي أصاب الخزينة على النحو التالي:

1-    تطبيق نظام ضرائبي عادل.

2-    إطلاق الحرية التجارية بين مختلف ولايات الحكومة، و بين فرنسا و الدول الأخرى.

3-    القضاء على نظاهر الفساد في الإدارات الحكومية، و إسناد الوظائف إلى الأمناء.

4-    الحد من سلطات الكنيسة.

 

        إن كل تلك الأهداف كانت تضر بالامتيازات الضرائبية و الاجتماعية التي كانت للطبقة الأرستقراطية (النبلاء و رجال الدين)، و حيث أن النبلاء كانوا متنفذين في البلاط و حيث أن الملكة ماري أنطوانيت كانت تشد أزر هذه الطبقة الأرستقراطية، لم يلبث أن تآمرت هذه قوى ضد (ترجيو) حتى عزلته (1774-1776).

        كان في استطاعة الأرستقراطية أن تبعد هن دست الحكم الوزير الذي يحاول أن يسد العجز في الخزانة من دخول النبلاء أو رجال الدين و لكن هذا لا يعني إلا أن المشكلة لا تزال قائمة و لا تزال تحتاج إلى علاج ناجه و لذلك لم يلبث لويس السادس عشر أن أسند منسب (المراقب المالي) إلى نيكر[4] (1776-1781).

        و الظروف التي عمل فيها (نيكر) كانت دقيقة غاية في الدقة، فقد نشبت حرب الاستقلال في عهده، و اشتركت فيها فرنسا، و تحملت من وراء ذلك نفقات باهظة أجهزت ةعلى الخزينة، و مع هذا استطاع (نيكر) – لما عرف عنه من حذق و سمعة مالية عالية – أن ينقذ الخزينة من إعلان الإفلاس عن طريق القروض التي كان يعقدها بفوائد أقل من ذي قبل، و لكن لم يكن هذا سوى علاج مؤقت فقط.

        كان (نيكر) قد درسي الأوضاع المالية بدقة، و أعد بيانا عاما انطلق خارج حجرات الإدارات المالية إلى القارئ الفرنسي الذي كان يتشوق إلى الإلمام بما يدور وراء جدران تلك الإدارات، فضلا عن وجود عناصر عديدة مستعدة للإفادة من كل شيء يتهم الأرستقراطية أو يتعلق بها و بامتيازاتها، و لقد كان بيا (نيكر) من هذا النوع.

        كان (نيكر) يرى أن إنقاذ ميزانية البلاد يتطلب إعادة النظر في توزيع الضرائب على مختلف المستويات، كان يطالب بالمساواة و العدالة عند توزيع الضرائب، أو بمعنى آخر فرض الضريبة على النبلاء و على رجال الدين أسوة بالطبقة الثالثة، كما طالب بالمساواة بين أقاليم و ولايات المملكة بحيث لا تحصل إحداها على إعفاءات دون الأخرى، أو تتحمل واحدة منها أعباء ضرائبية أعلى من الأخرى.

        أما بالنسبة للطبقة الثالثة فكا يرى – عن حق – أنها لم تعد تحتمل أي مزيد من الأعباء الضرائبية، و لقد أصبح من المستحيل فعلا زيادة دخل الحكومة عن طريق زيادة الضرائب بسبب الانخفاض الشديد في القوة الشرائية بسبب ارتفاع أسعار الحاجيات الضرورية في الوقت الذي كانت في الأجور تنخفض.

        و حيث أن هذه الاتجاهات التي نادى بها (نيكر) تزيد عما ذهب إليه سلفه (ترجيو) في سياسة الإصلاح المالي فإن بلاط فرساي كان يراقب بعين الغضب إلى (نيكر) منذ أن نشر بيانه و ظلوا وراء حتى أخرجوه من منصبه في (1781).

        و مرة أخرى تغلبت الأرستقراطية القصيرة النظر على مصلح كان يستطيع أن يجد لفرنسا مخرجا من تلك الأزمة المالية القاسية، و لكن ظلت المشكلة المالية قائمة تنتظر من يحلها.

        أسندت الوزارة إلى كالون[5]زمة ال (1783-1787)، و كان الدين العام قد أصبح كبيرا، و مع هذا رأى كالون أن سياسة البذخ كفيلة بأن نوحي إلى الممولين بأن قدرات الحكومة على الوفاء بالتزاماتها المالية لا تزال متينة، و كان هدفه من وراء ذلك هو عقد المزيد من القروض لتغطية مركز الحكومة المالي، و لتنفيذ هذه السياسة اشترت الملكة ماري أنطوانيت قصر (سان كلو)، و عقد كالون قروضا كبيرة رفعت دين الحكومة إلى أكثر من الضعف، و أدرك كالون أنه لابد من إجراء إصلاحات ضرائبية لا تتعرض للطبقة الثالثة و لا تثقلهم بأعباء جديدة، و إنما تخفف عنهم بعض هذه الأعباء الثقيلة.

        و تضع الأرستقراطية (النبلاء و رجال الدين) على قدم المساواة مع الطبقة العامة و لو على الأقل في بعض الضرائب الرئيسية.

        و يمكن أن نحدد برنامج كالون الإصلاحي على النحو التالي:

1- فرض الضريبة على الأراضي و ليس على الأشخاص، و بالتالي فهي ضريبة تفرض بغض النظر عن كون صاحب الأرض من الأرستقراطية أو من الطبقة الثالثة، و كانت ملكيات هذه الطبقة الأرستقراطية الواسعة تشكل مصدرا لم يمس لتحصيل مبالغ كبيرة من الضرائب، تستطيع أن تسدد – على الأقل- جانبا رئيسيا من الديون، و تقلل زمن خطورة العجز في الخزينة.

2- رفع الحواجز الجمركية الداخلية بين أية ولاية و أخرى، و أن تصبح الضرائب الجمركية قاصرة على البضائع الواردة إلى فرنسا من دولة أخرى و معنى هذا أن فرنسا تصبح سوقا قومية مفتوحة أمام المواطن الفرنسي الأمر الذي يزيد من حركة التجارة و حجمها و يؤدي إلى نمو أكبر في الإنتاج.

3- رفع قدرات الشعب الشرائية عن طريق تخفيف ضريبة الرأس و ضريبة الملح عن الطبقة الثالثة، و يمهد لتوحيد الضرائب على الجميع بالتساوي بغض النظر عن الفوارق الاجتماعية.

4- إلغاء الضريبة على الإيراد.

        إن الهدف الواضح من وراء هذه الإصلاحات هو أن يتساوى الفرنسيون جميعا – بغض النظر عن المركز الاجتماعي – أمام الأعباء الضريبية و فتح البلاد الفرنسية أمام أبنائها دون أية عوائق بحيث تصبح هناك فعلا مشاعر قومية متجانسة متفاعلة و آفاق تجارية و صناعية تربط بين مختلف أجزاء البلاد الأمر الذي يجعل قدرات هذه البلاد الاقتصادية أكبر بكثير جدا من تلك القدرات التي كانت تعتمد عليها.

        و لكن هناك هدفا كبيرا سعى إليه كالون لا يقل أهمية عن ذلك الإصلاح الاقتصادي سالف الذكر، و هو العمل على إشراك العشب الفرنسي في إدارة دفة البلاد عن طريق إجراء انتخابات لتكوين مجالس محلية و مجالس إقليمية، حقيقة كان حق الانتخاب لدى كالون قاصرا على من يملك و لمه دخل متوسط، و لكن الخطوة في حد ذاتها كانت جريئة و كانت مسؤولة عن تطلع الناس إلى الأساليب الانتخابية و البرلمانية و مشاركة الشعب ي الحكم، أو على الأقل في النظر في الأمور التي تمس حياته مباشرة.

        و رغم أهمية هذه الخطوة الانتخابية إلا أنها وصلت إلى طريق مسدود لم تستطع أن تنطلق إلى ما وراءه و هذا راجع إلى أن هذه المجالس التي تشكلت في الأقاليم ظلت ذات طابع استشاري و ظل وكلاء الملك هم أصحاب الحل و العقد فيما يتعلق باتخاذ القرارات المتعلقة بالضرائب.

        و كان كالون يدرك أن أية مراسم ملكية تصدر لتنفيذ هذا الإصلاح لن تسجل في المحكمة التي كاتنت معقلا من معاقل الارستقراطية، كان أي مرسوم بقانون لا يصبح شرعيا إلا إذا سجل في المحكمة، و لذلك لجأ إلى دعوة (مجلس الأعيان).

        و كان هذا المجلس معروفا في القرن السادس عشر و السابع عشر، و كان الملك يدعوه للانعقاد من وقت لآخر، و لكنه لم يلبث أن أهمل مثل غيره من المجالس، و من ثم فإن العودة الملك لويس السادس عشر – باقتراح من كالون – بدعوة مجلس الأعيان في حد ذاته دليل ضعيف من جانب الملكية، و أنها أعجز من أن تفرض بنفسها – مثلما كان الحال من قبل – الضرائب التي كانت تراها لازمة لمواجهة احتياجات البلاد و لسد العجز و دفع الديون.

        و واضح من اسمه أنه يمثل الأعيان فقط إذ كان يتكون من الأرستقراطية (النبلاء و رجال الدين)، و من ثم فهو لا يمثل الشعب الفرنسي كله، و إنما كان يمثل القطاع الذي يريد كالون أن يحمله المزيد من الأعباء الضرائبية.

        اجتمع (مجلس الأعيان) في فبراير / شباط 1787، و كان كالون يعتقد أن الأرستقراطية ستتفهم أهدافه، خاصة و أنه هو الذي اختار أعضاء هذا المجلس، و لكن النتيجة جاءت عكسية، فقد تمسكت الأرستقراطية بامتيازاتها، و أظهرت بوضوح أنه إذا كان لابد و أن تتنازل عن بعض هذه الإمتيازات فلتحصل في مقابل ذلك على امتيازات أو حقوق سياسية، و أحرجت الأرستقراطية مركز كالون عندما اتهمت المسئولين عن مالية البلاد بأنهم  هم سبب إفلاس رستقرؤاطكية الخزينة، و نجحت الأرستقراطية للمرة الثالثة في إبعاد أحد المصلحين الاقتصاديين عن مجال الإصلاح (7 نيسان / أبريل 1787).

        حقيقة بدا كأن الأرستقراطية أصبحت أقوى من أن تنال منها أيدي وزراء و موظفي الملك، و لكن كانت هناك اتجاهات جديدة تشير إلى أن الأرستقراطية تلعب لعبة سياسية خطية، فخلال اجتماعات مجلس الأعيان سالف الذكر ظهرت دعوة إلى عقد (مجلس طبقات الأمة) و كان صاحب هذه الدعوة لافاييت صاحب الشهرة الذائعة منذ اشتراكه في حرب الاستقلال الأمريكية، و مع أن هذه الدعوة لم تتردد من بعد ذلك بقوة إلا أنها أطلقت، و كانت الظروف تسير حثيثا إلى تحقيقها.

        لقد أصبح هناك صراع بين الأرستقراطية و الملكية، و ستحاول الملكية أن تثبت أنها فوق الأرستقراطية، و ستعمل الأرستقراطية –مستندة إلى المؤسسات القضائية و التمثيلية التي لها فيها الأغلبية – على الحفاظ على مكانتها و امتيازات بل و على القدرة على تحدي الملكية، و لم تكن تعتقد أن هذا سيؤدي إلى إضعافها هي و الملكية في آن واحد.

        احتدم النزاع بين الملكية و الأرستقراطية في أعقاب عزل كالون، و اسناد الوزارة إلى (دي بريين)[6]-رئيس أساقفة تولوز، و ذلك بتزكية الملكة ماري أنطوانيت له، و كان رجل من خصوم كالون و لكنه في نفس الوقت كان مستعدا لأن يأخذ ببعض توصياته، كان دي بريين كذلك من رجال الدين من أصحاب المكانة و النفوذ و الكلمة المسموعة، و مع أنه استطاع في أوائل عهده أن ينقذ الخزينة من الإفلاس إلا أنه وجد أن العلاج يجب أن يكون وفق توصيات سلفه كالون، فنشط دي بريين في إحياء مشاريع سلفه الإصلاحية و ترتب عن ذلك إطلاق حرية تجارة الحبوب، و كاد أن ينجح في فرض ضريبة واحدة على كل الأراضي حتى التي تملكها الأرستقراطية و لكن واجه هنا مقاومة صعبة المراس من جانب هذه الطبقة، و اعتمدت هذه الطبقة على أغلبيتها في مجلس الأعيان و في المحكمة.

        رفض مجلس الأعيان الموافقة على فرض ضريبة الأراضي، فكان طبيعيا أن يفضه دي بريين ليحاول تسجيل مراسيم الملك الخاصة بفرض تلك الضريبة، و مراسيم إصلاحية أخرى، و في المحكمة حتى تصبح شرعية نافذة المفعول.

        و في المحكمة وقفت الملكية المطلقة وجها لوجهه أمام الأرستقراطية، أراد لويس السادس عشر أن يقوم بالدور الذي طالما قام به لويس الرابع، و لكن المحكمة تصدت للويس السادس عشر و رفضت الإذعان لتهديداته، و رددت أنها تحافظ على الحريات من طغيان الملك (آب / أغسطس 1887 إلى آيار / مايو 1788)، و أم مجلس طبقات الأمة هو الهيئة الوحيدة التي تستطيع أن تفرض مثل تلك الضرائب.

        و لم يلبث الملك و مستشاروه أن غيروا من نظام تلك المحكمة حتى يشلوا هذه المعارضة الأرستقراطية الصلبة، فكان ذلك مقدمة لتطورات معقدة أخرى، فقد أسرعت الأرستقراطية إلى البرجوازية لتتحالف معها ضد الملك، و وجد دي بريين أن القوى التي تتصدى له و لمشاريعه أقوى من ان تقاوم.

        و حيث أن المشكلة المالية كانت لا تزال جاثمة على الصدور و تتطلب حلا مهما كانت التطورات و النزاعات، وجد دي بريين نفسه مضطرا لأن يقدم على تحديد ميعاد لعقد مجلس طبقات الأمة و تحديد أول آيار / مايو 1789 ميعادا لافتتاحه.

        ثم قدم دي بريين استقالته، و خلف (نكر) للمرة الثانية، و كان من أوائل الأعمال التي قام بها (نكر) إعادة (المحكمة) إلى ما كانت عليه، و بذلك هدأت ثائرة الأرستقراطية، و دعا إلى انعقاد مجلس طبقات على نفس الأسلوب الذي أوصت به المحكمة و هو أن يجتمع ممثلو النبلاء في حجرة، و ممثلو رجال الدين في أخرى و ممثلو العامة في ثالثة حتى تظل أغلبية التصويت للطبقة الأرستقراطية إذا كان التصويت يؤخذ على عدد الغرف و ليس على عدد الأصوات، و حيث أن لرجال لادين و النبلاء، غرفتين فلن يصدر مجلي طبقات الأمة – من وجهة نظر الأرستقراطية – أي قرار يتعارض مع امتيازاتها و رغباتها.

        و حيث أن محكمة باريس كانت قد وافقت على أن يكون عدد أصوات الطبقة الثالثة معادلا لعدد أصوات الإكليروس و النبلاء[7]، و حيث أن الطبقة الثالثة كانت واثقة من أن عددا مهما من الإكليروس، و أقلية من بين النبلاء مستعدة للتصويت إلى جانب الطبقة الثالثة، فقد تمسكت الأرستقراطية بأن يكون التصويت على حسب عدد الغرف حفاظا على امتيازاتها.

        و كان مندوبو البرجوازية – التي كانت تقود الطبقة الثالثة – على إدراك تام بما تهدف إليه الأرستقراطية، و أدركت البرجوازية أن هذه هي فرصتها لكي تصبح على قدم المساواة اجتماعيا و سياسيا و اقتصاديا مع الطبقة الأرستقراطية، و كانت هذه البرجوازية تتمتع بقيادات شجاعة قادرة على مواجهة الأمور بأسلوب حديث لا يتوفر لدى الأرستقراطية، فقد كان مندوبو الطبقة الثالثة في مجلس طبقات الأمة من قضاة و محامين و اقتصاديين و تجار و صناعيين و علماء و كتاب[8] فكانوا ويتمتعون بقدرة فائقة في عرض الأمور و في إدارة دفة الجدل بما يلهب المشاعر إلى صفهم.

        أما مندوبو الأرستقراطية فقد استعدوا لحضور جلسات مجلس طبقات الأمة و هم مفككون، و كانت القيادة العليا – مظهريا على الأقل – في يد النبلاء، و كان المفهوم أن الإكليروس – رغم وجود جماعات كبيرة بين المندوبين تميل إلى الطبقة العامة – لن يلبث أن يتعاون مع النبلاء حفاظا على الامتيازات التي تتمتع بها الأرستقراطية.

        و لكن جماعات الإكليروس، المناهضة للامتيازات، بين مندوبي هذه الطبقة كثيرة، و سيكون لها أهمية كبيرة في تقوية جانب الطبقة الثالثة ضد الأرستقراطية.

        و خلال هذه التطورات، وقعت سلسلة من الأزمات الاقتصادية جعلت جماهير الشعب و في باريس و في السمدن و في الأرياف على أهبة التحرك، فقد كان محصول 1788 قليلا، فارتفعت أسعار المواد الغذائية الضرورية، و انتشر الجوع بين الفئات الفقيرة.

        و زاد من اشتداد الأزمة الاقتصادية أن معاهدة التجارة الفرنسية الانجليزية – المعقودة في 1786 – كانت لصالح انجلترا، إذ كانت الأخيرة قد تفوقت صناعيا، و أصبح إنتاجها قادرا على منافسة الإنتاج الفرنسي بنجاح في قلب فرنسا نفسها، فكان أن تعطلت أيدي عاملة صناعية فرنسية، و أصبحت هذه الجماعات  المتعطلة مستعدة لعمل أي شيء ينقذها من الفقر.

        و حيث أن هذه الجماهير الشعبية الفقيرة كانت شديدة الكراهية للطبقية الأرستقراطية فإنها كانت مستعدة للثورة على هذه الطبقة، فكان هذا من العوامل الجوهرية التي أعطت لأحداث 1789 و ما بعدها طابعا خاصا، و حول الصراع بين الملكية و الأرستقراطية و البرجوازية إلى ثورة شعبية.

         ولهذا، بينما كانت الأرستقراطية و البرجوازية في مجلس طبقات الأمة تتجادل بشأن العمل المشترك في المجلس و بشأن التصويت المشترك على القرارات كان العامة في باريس و خارجها يعانون من الفقر و يتحفزون لانتزاع ما بيد الأرستقراطية من حكم و امتيازات.

        في هذا الجو المشحون بالقلق بدأ (مجلس طبقات الأمة) في العمل، و كانت من أولى المشكلات التي واجهته هي كيفية التحقق من صحة انتخاب كل مندوب سواء من الأرستقراطية أو من الطبقة الثالثة، فكانت هذه المسألة مقدمة للتحرك البرجوازي، ثم الجماهيري ضد الأرستقراطية و الملكية.

الثورة:

       انعقد مجلس طبقات الأمة في الخامس من مايو 1789، و ألقى (نكر) خطابا هو عبارة عن تقرير عما يجب اتخاذه من إجراءات مالية و اقتصادية لإنقاذ الخزينة من الإفلاس، و من اقتراحات بشأن ضرائب جديدة لتغطية النفقات الباهظة التي كانت تذهب – من وجهة نظر الطبقة الثالثة – إلى البلاط الفرنسي و الأرستقراطية، و كان هذا سببا من أسباب استياء مندوبي الطبقة الثالثة، لأنهم لم يجيئوا إلى المجلس من اجل إعادة إمتلاء الخزينة بأموال الطبقة البقة الثالثة و إنما جاءوا لكي يعملوا من أجل الطبقة المهضومة الحقوق، كانوا يريدون برنامجا إصلاحيا شاملا، أما و قد تجنب الحكومة هذه الخطوة الأساسية فقد أصبح – من وجهة نظر مندوبي الطبقة الثالثة – أن يقوموا هم بها، و زاد هذا الاتجاه قوة عندما أصر النبلاء و الإكليروس على اجتماع كل طبقة على حدة في غرفتها لبحث المسألة الروتينية التي تحدث في أعقاب كل انتخاب و هي التحقق من صحة انتخاب كل عضو من أعضاء مجلس طبقات الأمة.

        وجه مندوبو (العامة) دعوة صادقة إلى النبلاء و الإكليروس لكي يجتمعوا جميعا في غرفة واحدة و ليبحثوا هذه المسألة المشتركة (التحقق من صحة انتخاب كل عضو)، و لكن تصلبت الأرستقراطية في موقفها، و تصلب مندوبو الطبقة الثالثة بموقفهم، و تخلوا عن المقاومة السلبية إلى مرحلة العمل بغض النظر عن انضمام النبلاء أو الإكليروس إليهم على اعتبار أنهم من ممثلو الشعب الحقيقيين، و برزت خلال هذه الأزمة الناشبة فكرتان ستكونان ذات أهمية في تاريخ الثورة الفرنسية:

الأولى: اطلاق اسم (الجمعية الوطنية) على أعضاء المجلس.

الثانية: الدعوة إلى وضع دستور.

و فعلا في 17 يونيو 1789 أطلق المجلس على نفسه اسم (الجمعية الوطنية)[9]، و لن يلبث أن يعرف باسم الجمعية التأسيسية عندما يتولى وضع دستور لفرنسا.

        كان إطلاق اسم (الجمعية الوطنية) على هذا المجلس انتصارا للعامة على الأرستقراطية، إذ كان يعني أ العمل سيسير في طريقه سواء اشتركت الأرستقراطية أو لم تشترك، و كان هذا تطبيقا لنظرية سبق لسييس Syes أحد زعماء الثورة الفرنسية، و من المشتغلين بالمسائل الدستورية، أن نادى بها و تقول أن العامة هم كل شيء، و يجب أن يكون بيدهم كل شيء، و لت يضير فرنسا أن تنتهي أو تستعبد الأرستقراطية.

        و هنا يجدر بنا أن نتساءل: لماذا لم يتخذ الملك و بطانته و الأرستقراطية خطوة عسكرية حازمة ضد هؤلاء المندوبين الثوريين الذي أظهروا صراحة موقفهم المعادي للأرستقراطية؟ و لماذا لم يستمع الملك إلى الملك ماري أنطوانيت و إلى عدد كبير من كبار الأمراء و النبلاء – و على رأسهم كونت دارتوا – عندما ألحوا عليه أن يستخدم القوة ضد هذه الزعامات الناشئة؟

        الواقع إنه كانت لدى الملك رغبة قوية في أن يخمد أنفاس هؤلاء المندوبين من الطبقة الثالثة، ولكن منذ البداية كان هو في حاجة إليهم، فهو الذي جمعهم من أجل إنقاذ مالية البلاد من الإفلاس. وحيث أن الأمور ظلت على ما هي عليه، كان عليه أن يسايس هؤلاء حتى يحقق أهدافه، وكان هذا هو الطريق الذي سار فيه لويس السادس عشر بتوجيه من جناح آخر كان يضغط عليه ويدعوه إلى مسايرة الطبقة الثالثة وعدم التعرض لها تجنبا لشرور كثيرة.

      لقد كان من العسير على لويس السادس عشر أن يجهض الحركة .فقد كانت هناك ظروف أقوى منه، وتمنعه هو وكذلك الحزب الملكي المتطرف-بزعامة الملكة وكونت دارتوا- من اتخاذ إجراءات عسكرية ضد الجمعية الوطنية، ونعني بذلك حاجة الملك الماسة إلى المال، ووجود نكر المحبوب من الشعب في الحكم، ورغبته في الوصول إلى تفاهم مع زعماء الطبقة الثالثة.

      ولهذا كانت الإجراءات والخطوات التي اتخذها لويس السادس عشر مزيجا من ترضية الطبقة الثالثة والتلويح باستخدام القوة. ولكن إلى أي مدى يمكن السير في هذا السبيل في الوقت الذي كان فيه زعماء البرجوازية لا يريدون إلا تحقيق أهدافهم السياسية والاجتماعية والمالية.

     كذلك كان دوق أورليانز يتصور أن نمو قوة الطبقة الثالثة سيكون على حساب قوة لويس السادس عشر. وكان هذا صحيحا، ولكنه رتب على ذلك نتيجة ثبت له فيما بعد عدم صحتها، وهي أن ضعف وتدهور لويس السادس عشر سيفتح أمامه الطريق لاعتلاء العرش مكانه ولهذا وضع هذا الدوق الثري أمواله في خدمة زعماء الطبقة الثالثة. كما أنّه عمل على زيادة حدة التوتر بين الملك والجمعية الوطنية، بل كان يقضي على الفرص التي قد تؤدي إلى تفاهم بين الملكية والطبقة الثالثة.

        ولقد حاول الملك فعلا أن يستخدم شخصيته ففي إقناع الطبقة الثالثة بأن تسلك مسلكا أقل حدة وتطورا، وتذكر البلاط الملكي تقليدا قديما كان متبعا من قبل وهو أن حضور الملك إلى مجلس طبقات الأمة وحضوره الاجتماع كان يعني أنّه على المجلس أن يتقبل مشيئة الملك  وأن يعمل على تنفيذها. فقرر الملك عقد هذه الجلسة الملكية ولذلك أغلقت قاعة اجتماعات مجلس طبقات الأمة لإعدادها للجلسة التي تحددت في 22جوان، ولكنها تأجلت إلى 23منه.

        لم يفهم مندوبو الطبقة الثالثة المسألة على هذه الصورة، وإنما رأو فيها مؤامرة خفية تدبر ضدهم. فأقروا أن  يستمروا في عقد اجتماعاتهم في أي مكان، وانتقلوا إلى ملعب التنس وأعلنوا أنهم لن يفضوا اجتماعاتهم إلى بعد أن يصدروا الدستور. فكان هذا تمردا صريحا على الملكية. وفي هذه الساعات الحاسمة حدث تحول جديد لصالح الطبقة الثالثة عندما أعلن أغلبية الإكليروس الانضمام إلى الطبقة الثالثة وفعلا اجتمعوا بهم في كنيسة سان لويس في 20جوان. وعندما أزفت ساعة انعقاد الجلسة الملكية كانت قوة الطبقة العامة قد توطدت وأصبح من العسير جدا السيطرة عليها.

         عقدت الجلسة الملكية في 23 جوان1789. واتخذ الملك سياسة وسطا، لا هي مع الأرستقراطية تماما، ولا هي مع الطبقة الثالثة، وعمد في نفس الوقت إلى تأكيد حق الملك في اتخاذ القرارات الحاسمة. ولكن الظروف كانت أقوى من أمثال هذه الحلول الوسط.

       لقد وافق الملك على المساواة بين الفرنسيين في الأعباء الضرائبية. ووافق على الحريات الفردية وعلى حرية الصحافة، ولكنه تمسك بضرورة إتباع الطريقة التقليدية في عقد جلسات مجلس طبقات الأمة أي على أساس الغرف والتصويت على أساس طبقي وهو الأمر الذي أصبح مندوبو الطبقة الثالثة يعتبرونه في ذمة التاريخ.

   أصبح الموقف معقدا. فالمندوبون من الطبقة الثالثة رفضوا إخلاء القاعة، وجاءهم رجال الملك يطلبون منهم ذلك، فرفضوا، و فكر الملك في استخدام القوة، حقيقة تحرك الحرس الملكي بقصد تفريق المندوبين، و لكن لافاييت و معه عدد آخر استلوا سيوفهم مؤكدين أنهم مصممين بالموت دفاعا عن مواقفهم الدستورية إذ فرض عليهم الملك القتال، لقد كانت وقفة جريئة، و كان الملك لا يريد أي نوع من الاقتتال، فصدرت أوامر بوقف التحرك، و انتهت الأزمة بفوز جديد أحرزته ي، فصدرت الأوامر بوقف الطبقة الثالثة.

        و توالت بعد ذلك انتصارات الطبقة الثالثة، فقد انضم للجمعية الوطنية في 24 يونيو / حزيران أكثرية من الإكليروس، ثم انظم 48 من النبلاء الأحرار بزعامة دوق أورليانز، و من ثم أصبحت الأغلبية العددية لصالح الطبقة الثالثة. و أصبح الأقلية فقط من الإكليروس، و أغلبية من النبلاء متمسكين بالانفصال عن الطبقة الثالثة، و لكن كان واضحا تماما أن (الجمعية الوطنية) ستتابع عملها بغض النظر عن الرجعية المتصلبة، و رأى الملك أن يجعل تطور الأمور و كأنها صادرة بموافقته بعد أن أدرك أنه لا يستطيع أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، و رأى أن من الخير له أن يوافق على اجتماع المندوبين في (الجمعية الوطنية) بغض النظر عن الانتماءات الطبقية و الامتيازات حتى لا تظل الأمور تسير هكذا و كأنها رغم أنف الملكية.

        و لكن هذا التفكير كان أيضا يؤدي إلى تقديرات خاطئة، فقد كانت الطبقة الثالثة لا تنظر إلى الوراء، و لا تكتفي بما تحصل عليه من انتصارات و إنما كانت كلما أحرزت نصرا، سعت إلى آخر، فقد كانت أهداف البرجوازية تؤدي إلى تفويض النظام القديم، و كلما أنجزت هدم جزء منه، انقضت على الجزء التالي.

        و هكذا، انتقلت الجمعية الوطنية بعد تلك الأزمة إلى أن تعلن نفسها جمعية تأسيسية أي جمعية لوضع الدستور و تشكلت لجنة لوضع الدستور (أوائل تموز)، ولكن كيف تستطيع أن تعمل هذه الجمعية في الوقت الذي كانت فيه الملكة ماري أنطوانيت و الكونت (دارتوا) يدبران خططا للوقيعة بتلك الجمعية بطريقة أو بأخرى، و لقد كانت الملكة فعلا تعتقد أن ترك الوقت يمر دون استخدام القوة يعطي الفرصة للجمعية الوطنية (الجمعية التأسيسية) لتوطيد أقدامها، و كانت الملكة تدرك أن دوق أورليانز يريد القضاء عليها و على زوجها الملك و على ابنهما ولي العهد لكي يعتلي هو العرش، و أن مثل هذه الخصومة لا يمكن أن تسوي إلا بالقوة، و كان كونت (دارتوا) يحثها باستمرار على استخدام القوة و عدم مسايرة الملك في سياسته اللينة، و كانت هذه التوصيات و النصائح التي يلقي بها (دارتوا) إلى الملكة متلائمة مع شخصيتها النفاذة القوية المتغطرسة، و لهذا شرعت هي و حاشيتها في تدبير ما أطلق عليه (الانقلاب الملكي).

        كانت هناك إشاعات عديدة عن وجود مؤامرة ملكية ضد (الجمعية) و لكن لم تكن هناك شواهد واضحة تؤكدها حتى اقترب المارشال بروجلي[10] بما تحت يده من قوات من المرتزقة الألمان و السويسريين، و حتى عزل الملك – بتحريض من الملكة و حاشيتها – و زيره نكر (11 يوليو 1789).

        أثارت هذه الإجراءات الفزع و الغضب لدى (الجمعية) و الجماهير، فأغلقت البورصة أبوابها، و أوقفت المسارح حفلاتها، و نظمت المظاهرات الصاخبة، و انطلقت الشائعات بقوة في كل مكان، و ملأت المنشورات المعادية للملكية و للنبلاء الأماكن العامة، و أصبحت الصحافة ملتهبة و ظهر عدد من الكتاب و الخطباء الثوريين الذين كانوا على مقدرة فذة في إثارة المشاعر بالوطنية المتأجحة و استقطبوا كل الشعب الباريسي الذي سيصبح هو أمل (الجمعية) في الدفاع ضد الملكية و النبلاء المستندين إلى قوة الجيش.

        و لقد أدركت (الجمعية) مدى ما تتعرض له من أخطار الانقضاض المفاجئ لهذه القوات من المرتزقة عليهم، و مع هذا اتخذوا وسيلة سلمية في أول الأمر بأن تقدم عدد من أعضاء (الجمعية) إلى الملك طالبين إبعاد هذه القوات عن باريس، و لكن الملك قد بلغ آخر ما يستطيع التنازل عنه، و كان مستعدا لأن يستمع إلى صوت الملكة و هو صوت القوة، و أسند منصب وزير الحربية إلى (بروجلي).

        لقد اقتربت ساعة الصدام الحاسم، و الجمعية تعتمد على شجاعة مندوبيها و لكنها شجاعة لا يمكن أن تفيذ في صد هجوم الجيش (بروجلي)، و من ثم كان لابد من العثور على قوة تدافع بها (الجمعية) عن نفسها، و هنا برزت أهمية (جمهور باريس).

        كان جمهور باريس قد ارتفعت درجات حماسته بما توصلت إليه (الجمعية) من انتصارات تشريعية و دستورية، و كان يعتقد –عن حق – أن كل تلك الانتصارات ستتلاشى بسرعة إذا ما نجحت الملكية في القضاء على الجمعية، و كان هناك العديد من الثوريين الوطنيين[11] الذين كانوا يخطبون في الميادين العامة و كان هناك الألوف من جمهور باريس الذي ذاق مرارة البطالة، أو ارتفاع الأسعار، أو عجز عن شراء خبزه اليومي، أو العثور على حاجته من الحبوب، و انطلقت الشائعات تردد أن الأرستقراطية هي التي خزنت الحبوب و أخفتها عن الأعين حتى تذل الطبقة الثالثة و تقضي عليها، و زادت مشاعر الطبقة الثالثة التهابا عندما اصطدمت بعض جموع منها بالحرس الألماني، لقد بدأ الصدام، و بالتالي أصبح جمهور باريس مقتنعا بأن المؤامرة الملكية تسير في طريقها، و أنه لا يمكن إنقاذ الموقف لصالح العامة إلا بأن يتسلح الشعب، فطغت موجة من البحث عن السلاح و نهب المخازن، بل و نهبت الغوغاء كذلك محلات المأكولات و بدا كأن الموقف بدأ ينفلت، و الفوضى بدأت تنتشر.

        و في الأنفاليد Hôtel des Invalides كان يوجد مخزن السرح، هاجمه (جمهور باريس)، و استطاعا الاستيلاء على حوالي 32 ألف بندقية، و أصبحت جمهور باريس مسلحة، و ازداد قوة بانضمام بعض قوات (الحرس) إليه، و اتجهت الجموع إلى حصن الباستيل.

        كان حصن الباستيل من الحصون الإقطاعية القديمة، و كانت قيمة أمثال هذه الحصون – من الناحية العسكرية – كانت قد تلاشت منذ أن حطم (مازاران) أمثال هذا الحصن خلال جهوده الخاصة بتفويض نفوذ الأشراف النبلاء و قوتهم، و بعد ذلك تحول هذا الحصن إلى سجن للدولة، و كان قد ألقي فيه عددا من المسجونين ليقضوا فيه عقوبة السجن لمدد متطاولة جدا من السنوات، و كان هذا الحصن قد أحيط بهالة من الأساطير المرعبة و أصبح رمزا من رموز الطغيان و الاستبداد.

        أما من الناحية العسكرية، فقد كان الحصن غير مزود إلا بقوة قليلة العدد جدا بالنسبة لمساحة الحصن، فقد كان به للدفاع عنه حوالي الثمانين وصفهم أحد المؤرخين بأنهم من مشوهي الحرب، و إلى جانبهم عدد من الجنود السويسريين يبلغ عددهم حاولي ثلاثين رجلا.

        و كانت أمور حصن الباستيل مستندة إلى ضابط على قدر بسيط من الكفاءة و هو دي ليناي[12] و كان تحت يده عدد من المدافع المنصوبة فوق أسوار الحصن المرتفعة القوية، و كان يعتقد أنه من العسير على جماهير بدون قيادة أن تقتحم هذا السجن، و لكن كان الجمهور المسلح – الذي هاجم الحصن في 14 يوليو / تموز 1789 – مزود يقوتين لم يحسب لهما ليناي حسابا:

1- الحماس القوي الذي كان يدفع الجمهور إلى التضحية، لقد كان الشعب بحاجة إلى نصر عسكري بعد أن حمل السلاح، و ها هي الفرصة بين يديه.

2- انضم عدد ليس بالقليل من بوليس باريس، و كانوا على دربة عسكرية مناسبة لها قيمتها في مثل هذه الظروف و قادوا الجمهور في عملية اقتحام الحصن.

        و تحت دوي مدافع حصن الباستيل، و وسط حماس المتسلقين للأسوار العالية، استطاع الجمهور أن يسيطر على معظمك أجزائه الأمر الذي جعل المدافعين عنه يطلبون الأمان لأنفسهم في مقابل فتح أبواب الحصن، و وافق الجمهور و انطلق إلى داخل الحصن معملا السيف في رقاب أولئك الذين حصلوا على الأمان، و أخذ الجمهور يبحث عن المسجونين من ضحايا الاستبداد فلم يعثر إلا على سبعة و لكنهم كانوا في حالة من البؤس و أشبه بالأموات منهم بالأحياء، فأخذهم الجمهور و دار بهم الشوارع في نشوة انتصار عاطفية كبيرة هي في الحقيقة التعبير عن كبت طويل جدا عاشه الشعب تحت الحكم الملكي المطلق، و عاش الشعب الباريسي يوما من الفرح و الابتهاج و لا يزال الشعب الفرنسي حتى عامنا هذا يحتفل بهذا العيد القومي.

        لم يتغير الموقف العسكري بعد سقوط البستيل، و لكن تغير الموقف العام تغيرا كبيرا، لقد تحولت العامة إلى ثورة عامة ذات أهداف سامية (الحرية) و تلاشى الولاء للملكية و للنظام القديم، و زاد من قوة جمهور باريس أن الملك نفسه لم يستطع إلا أن يرضخ لنمو قوة الجمهور، ففي اليوم التالي وافق على إبعاد الجيش عن باريس (15 يوليو / تموز)، و ذهب بنفسه إلى باريس في 17 تموز / يوليو كإعلان عن رضائه عما تم في 14 يوليو، بل حضر الملك بنفسه صلاة الشكر التي أقيمت في هذه المناسبة في كاتدرائية نوتردام المشهورة، كذلك استقبل بايي[13] -العالم الفلكي الشهير – الملك في قصر البلدية[14]. و هناك قد له (بايي) الشارة (المثلثة الألوان) التي ستصبح فيما بعد رمزا و شعارا للثورة الفرنسية.

        و لعل الملك كان يبذل أقصى ما يستطيعه من ضبط النفس من اجل الوصول إلى وضع مستقر، و لكن من ناحية أخرى تجدر الإشارة إلى أنه كان من قد أصبح من العسير على الملكية أن تقضي على الحركة الشعبية إلا إذا خاض الجيش مع الشعب في باريس حرب الشوارع دامية مكلفة، و هو أمر كان يتجنبه الملك إلى أقصى حد.

        ولقد أكد (بروجلي) في تقرير له هذه الحقيقة، من حيث أنه لا يستطيع السيطرة على الموقف و آثر أن يقدم استقالته.

        لقد كانت الأمور تتطور أسرع مما كان يتصوره الملك الذي كان يريد من وراء تنازلاته تلك أن تؤدي إلى استقرار الأوضاع حتى يمكن المحافظة على البقية الباقية من النظام القديم، و لكن كانت الاتجاهات تسير بسرعة نحو إلغاء مظاهر ذلك النظام القديم، و تجلى هذا خلال الفترة الواقعة بين سقوط الباستيل و يوم 04 أغسطس 1789 الذي يعتبر هو الآخر يوما تاريخيا.

        كانت (الجمعية) تدرك أن الأمور ذهبت إلى الحد الذي لا يمكن الرجوع منعه، و أن الملكية رغم ضعفها الواضح لن تتوانى عن أن تضرب ضربتها متى حانت لها الفرصة، و إذا كان جمهور باريس مستعدا لأن يدافع عن (الجمعية) فالمسألة ليست بقاصرة على هذا الأمر، إذ أن عقد النظام القديم كان قد انفرط، و كان لابد من إقامة بناء جديد على أنقاضه، بناء يكون حصنا للحركة الثورية و يحتوي على إدارات و مؤسسات جديدة تعمل لخدمة هذه الحركة، لقد شرعت الثورة في بناء حكومتها.

        كان أقوى مظهر لتلك الاتجاهات هو تكوين حكومة بلدية لباريس. و اسند المنصب (العمدة) إلى بايي و هو واحد من علماء الفلك الفرنسيين المشهورين الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الثورة الفرنسية.

        وسعت (الجمعية) و البرجوازية من قدراتها عن طريق تطوين جهاز عسكري تعتمد عليه في مدافعة قوى الملكيةى إذا هاجمت (الجمعية)، و كبح جماح جمهور باريس إذا اعتدى على الممتلكات و العقارات حيث أن هذه العقارات لم تكن في يد الأرستقراطية فقط، بل كانت كذلك في يد البرجوازية، و لهذا قررت (الجمعية) تشكيل الحرس الوطني في 13 يوليو، و اتسع نطاقه بعد حوادث 14 يوليو، و أسندت قيادته إلى لافاييت.

        كان الحرس الوطني في أول الأمر يتكون من عدد من المتطوعين، ثم انضم إليه رجال البوليس الذين كانوا قد تشبعوا بالأفكار الثورية، و فقدت الحكومة ثقتها فيهم، و نمت قوة الحرس الوطني حتى بلغت حوالي الخمسين ألف مقاتل.

        لم تكن كفاءة هذا الحرس الوطني عالية، إلا أنه كان على حماس كبير، و هذا ما كان يعوز الجيش الملكي، و مما لا شك فيه أن وجود لافاييت على رأس رجال الحرس الوطني أعطى لهم ثقة بالنفس كبيرة عوضتهم كثيرا عن نقص الكفاءة بينهم.

        إلى جانب هذا الحرس الوطني المستعد لأن يدافع عن (الجمعية)، كانت هناك أداة تنمو بسرعة في يد هذه الجمعية و الثوريين بصفة عامة، وز نعني بذلك الصحافة، فقد توالى ظهور الصحف، و وجدت هذه الصحف شخصيتها و ارتفاع مبيعاتها في شن حملات شعواء على النظام القديم، و لكن الأخطر من هذا هو أن الصحافة أسرفت في نشر أنباء عن مؤامرات و مؤامرات مضادة من جانب الأطراف المتصارعة (البرجوازية و الملكية). فكانت دائما تبقي المشاعر على حافة الصدام، و لكن هذه الصحافة كانت قوة لا تواجهها صحافة مضادة ملكية، لقد كانت الملكية مجرد من ذا السلاح، و لم يكن هناك في الحقيقة فرصة واضحة لأن تظهر جبهة ملكية منظمة سواء على المستوى الفكري أو العسكري، لقد كان الشلل و بطئ التدبير الطابع العام للحزب الملكي.

        ففي المدن تبخرت السلطة الملكية، و تشكلت محلها مجالس البلدية، و غادر وكلاء الملك مراكزهم، و توقفت جباية الضرائب.

        و في الأرياف، انقض الفلاحون على الأرستقراطية تدفعهم إشاعات متعددة خطيرة تتحدث عن مؤامرات ملكية أرستقراطية للفتك بالفلاحين، و ألهبت تلك المشاعر اشتداد الأزمة الاقتصادية، فكان هناك الألوف من الفلاحين المستعدين لحمل السلاح في وجه النبلاء، و هاجموهم فعلا، و أرغموهم على إحراق الوثائق التي تعطيهم حقوق إقطاعية قديمة، أو على توقيع التنازلات عن تلك الحقوق، و تسلم الفلاحون في الكثير من القرى سلطات الحكم و الإدارة.

        تحت وطأة هذه التطورات و الضغوط بدأ الأمراء و النبلاء ينسحبون من الميدان فيما عرف باسم (الهجرة)، و كان في مقدمة المهاجرين (الكونت دارتوا) أشد الأمراء نقمة و عداء للحركة الثورية، ةإذ غادر فرنسا في 17 يوليو / تموز إلى الأراضي المنخفضة، و من بعده أمير كونديه[15]، و ذهب دوق يولينياك[16] و المارشال دي بروي[17] إلى لوكسمبورج، و رحل عدد إلى انجلترا، و استقرت أعداد كبيرة ومن النبلاء في الولايات الألمانية على نهر الراين خاصة في ولايتي مينز[18] و كوبلنز[19].

        و الواقع أن أحداث باريس (14-17 يوليو) أثبتت لمتطرفي الملكية أن إعادة الأمور إلى ما كانت عليه لا يمكن أن تتم من الداخل، و إنما يجب – من وجهة نظر هؤلاء المتطرفين – الوقوف على أرض غير معادية حتى يستطيع هؤلاء إعادة تنظيم أنفسهم و بناء قوتهم من جديد.

        و يعتبر كثير من المؤرخين – عن حق – أن هذه (الهجرة) الأرستقراطية مسئولة عن النكبات المروعة التي حاقت بفرنسا – بل و بأوربا – خلال الفترة الواقعة بين منتصف 1789-1791.

        فقد أخذ هؤلاء المهاجرون يتحدثون و كأنهم أصحاب فرنسا، و يرددون أنهم لن يلبثوا أن يقضوا على الثورة بحد السيف، و أنكروا على الملك حق التنازل عن امتيازاتهم، و أن مثل هذه التنازلات لا قيمة لها على اعتبار أنها تمت تحت الضغط و الإكراه.

        ومن ناحية أخرى، لم تكن قوة هؤلاء الأمراء و النبلاء بالرهيبة، و إنما كانت خطورتهم كامنة في قدرتهم على تجييش الجيوش من أوربا، خاصة و أن الملكة ماري أنطوانيت هي إبنة فرانسيس الأول إمبراطور النمسا.

        وعلى أية حال سارت (الجمعية) في طريقها لتعلن أكبر مكاسب للشعب الفرنسي في أول أغسطس، و الرباع منه، و في العاشر منه، ففي أول أغسطس صدرت وثيقة إعلان حقوق الإنسان[20] و ستصبح جزءا من الدستور الفرنسي.

        و في الرابع من أغسطس صدرت عدة قرارات هامة قوضت النظام القديم و وضعت أساس الدلوة الحديثة التي تبينها البرجوازية، و هذه القرارات هي:

1-    إلغاء الامتيازات الضرائبية.

2-    إزالة السخرة.

3-    عدم حرمان العاقر من أي حق.

4-    إلغاء حق الصيد للنبلاء.

5-    منع بيع الوظائف.

6-    تنازل الإكليروس عن (العشر).

و بذلك انهارت الطبقية، و زالت بقايا النظم الإقطاعية، و تحرر المواطن من قيود كانت غير مفهومة لديه، و كنتيجة عامة انتهى النظام القديم من الناحية الطبقية و الإدارية و الاجتماعية، و أصبحت فرنسا وحدة قومية متكاملة.

        ولكن ليس معنى أن هذا الإلغاء تم نهائيا في الرابع من أغسطس إذ أن التنفيذ استمر بعض الوقت وامتد حتى فبراير / شباط 1792 عندما ألغيت كافة الحقوق الإقطاعية دون تعويض، مع استثناءات محدودة.

        ثم جاءت الضربة الثانية القاضية للنظام القديم في العاشر من أغسطس عندما أصدرت (الجمعية التأسيسية) قرارها بأن يقسم ضباط القوات المسلحة يمين الإخلاص للأمة و للملك و للقانون، و بألا يوجهوا جنودهم ضد المواطنين إلا بعد حصولهم على إذن بذلك من السلطات المدنية، و قيمة هذا القرار ترتكز في إنه سلب الملكية استخدام الجيش ضد الشعب الذي أصبح بمثابة الدرع الحامي (للجمعية التأسيسية).

        لقد بدا واضحا أن الملكية أصبحت مجردة من إمكانياتها، و هنا بدأ الملك يتجه فعلا إلى استخدام القوة، و لكن جاء هذا بعد فوات الأوان، و كانت الملكة ماري أنطوانيت قد عزمت على أن تنقذ عرشها بأية وسيلة، و ربما كانت مثل هذه الأهداف قابلة للتحقيق قبل يوليو / أغسطس 1789، أما بعد ذلك فقد كانت عيون كثيرة تراقب تحركات الملكة و أية قوة متواطئة معها و خاصة عندما استدعت الملكة فرقة الفلاندرز، و كانت هذه الفرقة العسكرية مؤلفة من مقاتلين مرتزقة غير فرنسيين، قم أقيمت حفلة كبيرة لضباط هذه الفرقة و ترددت فيها نداءات مؤيدة للملكة و ضد المبادئ الثورية و ديست الشارة المثلثة الألوان.

        وفي صباح لايوم التالي لتلك الحفلة انطلقت الصحف الباريسية تلهب المشاعر ضد المؤامرة الملكية، ومما زاد من هياج مشاعر الناس أن تلك الحفلة الصاخبة المكلفة تمت في وقت كانت فيه الجماهير تتضور جوعا بسبب ارتفاع أسعار الخبز ارتفاعا جعله بعيدا عن متناول الطبقة الفقيرة و العاطلين الذين كثيرو خلال النصف الثاني من عام 1789 لا بسبب الغلاء فقط بل كذلك بسبب وسائل العلاج الخاطئة التي اتبعت للتخفيف من حدة انتشار البطالة[21]. لقد كانت الجماهير- مثل الصحافة الثورية – شديدة النقمة على هذه الملكية التي لا تقيم وزنا لأحوال البؤس التي يعانيها الشعب بينما أموال الشعب تصرف على مرتزقة أجانب و على حفلات جوفاء، و تفاقم الموقف في 04 05 أكتوبر 1789.

        وحيث أن الجمعية و البرجوازية قد أصبحتا في حاجة إلى حركة شعبية قوية ترغم الملك و الملكة على التخلي عن أية مخططات عسكرية ضد الجمعية، و حيث أن هؤلاء العاطلين و الجائعين أصبحوا يشكلون قوة مستعدة للتحرك ضد الملكية التقت الأهداف في توجيه حركة الجياع من باريس إلى فرساي لتطالب الملك بالخبز و لتحضره هو و الأسرة المالكة إلى باريس، لقد كانت الجماهير الجائعة هي المطالبة بالخبز، أما المطالبون بإحضار الملك من فرساي إلى باريس فهم البرجوازية و الجمعية حتى لا يستطيع الملك أو الملكة اتخاذ أية إجراءات عسكرية ضد باريس.

        و في 05 أكتوبر دفع الجوع بنساء باريس الجائعات إلى القيام بزحف كبير صوب فرساي فذهبن و معهن أعداد غفيرة من العاطلين، و الحرس الوطني بقيادة لافاييت للمحافظة على المسيرة، كما ذهب عدد من أعضاء (الجمعية التأسيسية) إلى فرساي لعرض القضية على الملك.

        و هناك في فرساي استقبل الملك مظاهرة النساء بقلب طيب، و لكن في المساء اقتحم المتظاهرون القصر الملكي، و تعرض الملك و الملكة للخطر، و في هذه الظروف عرض لافاييت على الملكة و الملك الانتقال إلى باريس، و كانت نصيحة أقرب ما تكون إلى فرض الأمر الواقع فرضخ الملك، و عاد إلى باريس في 06 أكتوبر، و أقام في قصر التويلري، و ليصبح في الحقيقة ملك الفرنسيين السجين في قصر التويلري، و كانت (الجمعية التأسيسية) قد أطلقت عليه هذا اللقب بدلا من لقب ملك فرنسا في 8 أكتوبر / تشرين الأول 1789.



[1] - كانت قد فرضت خلال حرب الوراثة النمساوية على أساس أن تلغى بعد انتهائها إلا أنها استمرت حتى 1796 أي بعد نشوب الثورة الفرنسية.

[2] - تأسس في القرن الرابع عشر، و يتكون من مستشارين مسئولين عن تسجيل القوانين و إلا لم تعد هذه القوانين – التي يصدرها الملك – و يطلق عليها بعض المؤرخين اسم (برلمان باريس).

[3] - Turgue

[4] - Necker

[5] - Calonne

[6] - De Brienne

[7] - كان هذا بتأثير ينكر، و تقرر أن يكون عدد مندوبي الطبقة الثالثة ستمائة بينما لكل من النبلاء ثلاثمائة، و الإكليروس ثلاثمائة أخرى.

[8] - من الأسباب الرئيسية التي جعلت هؤلاء ينجحون – بشكل جعل البرجوازية هي قائدة الحركة الشعبية – هو أن الانتخابات على درجتين على الأقل.

[9] - تمت الموافقة على هذا الاسم بأغلبية 491 ضد 90.

[10] - Broglie

[11] - من أشهرهم دي مولين Camille des Moulins

[12] - De Launauy

[13] - أنظر بعد قليل تشكيل الحكومة البلدية و رئاسة بايي Bailly لها.

[14] - Hôtel de Ville

[15] - Condé

[16] - Poligniac

[17] - De Bruit

[18] - Mainz

[19] - Coblinz

[20] - سندرسها بالتفصيل عندما نتعرض لدراسة الدستور نفسه.

[21] - افتتحت بعض المصانع لتشغيل العاطلين، فأقبلت الجموع من خارج باريس للعمل في هذه المصانع، و كان الريف مستعدا لتصدير الألوف من أبنائه في مثل هذه الظروف إلى المدينة. و كان من جراء ذلك تزايد عدد العاطلين من جهة، و من جهى أخرى لم تلبث هذه المصابع التي انشئت على عجل أن أغلقت ةأبوابها و طردت ما كان من عمال دور مصدر رزق، فكان هؤلاء العاطلين مستعدين للتحرك تحت قيادة ثورية، خاصة إذا كان التحرك ضد الملكية.


قائـمة المراجع المعتمدة

1-                             موريس كروزيه، تاريخ الحضارات العام،ط2، منشورات عويدات، بيروت، 1987.

2-         جان بيرنجيه وآخرون، أوروبا منذ بداية القرن الرابع وحتى نهاية الثامن عشر، ط1، منشورات عويدات، بيروت، 1995.

3-         خليل علي مراد وآخرون، دراسات في التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل،1988.

4-         عبد الحميد البطريق وعبد العزيز نوار، التاريخ الأوروبي الحديث من عصر النهضة إلى أواخر القرن الثامن عشر، دار الفكر العربي، القاهرة،1982.

5-                             عبد الحميد البطريق، التيارات السياسية المعاصرة1815-1960،بيروت،1974.

6-         عبد العظيم رمضان، تاريخ أوروبا والعالم الحديث من ظهور البرجوازية الأوروبية إلى الحرب الباردة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1997.

7-         جلال يحيى، التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر حتى الحرب العالمية الأولى، الإسكندرية،1983.

8-                             هـ.أ.ل .فشر، تاريخ أوروبا في العصر الحديث(1789-1950)،ط7، القاهرة،1976.

 

   اقرأ ايضا:

التوسع الأوروبي وحركة الكشوف الجغرافية

حركة الاصلاح الديني

النهضة الأوروبية

انتعاش الكنيسة الكاثوليكية حركة الإصلاح المضادة

حرب الثلاثين عاما(1618-1648)

إنجلترا في القرن السادس عشر (عصر أسرة تيودور) 1485-1603

إسبانيا وثورة الأراضي المنخفضة

الثورة الفرنسية

 

 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة