U3F1ZWV6ZTIwMTU5Nzc5NjQ2Nzg5X0ZyZWUxMjcxODUzMjIzNDU3Nw==

إسبانيا وثورة الأراضي المنخفضة

 

 إسبانيا وثورة الأراضي المنخفضة


إسبانيا وثورة الأراضي المنخفضة


تمهيد
الثورة وأعقابها 1566-1567
معاهدة غنت Ghent (نوفمبر 1576)
حكومة دون جون واتحاد ارتخت
وفاة دون جون وتعيين اسكندر دوق بارما
قائـمة المراجع المعتمدة


لما اعتزل الإمبراطور شارل الخامس الحكم وتنازل عن تيجانة الكثير، ونفى نفسه منعزلا في أحد الأديرة عام 1556 بعد صلح أوجزبرج، قسم أملاكه بين أخيه فرديناند، وابنه فيليب، فاصبح فرديناند إمبراطورا للدولة الرومانية المقدسة وأصبحت النمسا وبوهيميا والمجر في حوزته، أما الممتلكات الأخرى فقد كانت من نصيب ابنه الذي أصبح فيليب الثاني ملك أسبانيا (1556-1598) وكانت السلالة المالكة الإسبانية أعظم نفوذ من السلالة النمساوية مدى قرن من الزمان، ولم يكن فيليب الثاني ملكا على إسبانيا وحدها بل لقد استولى على البرتغال بالوراتة عام 1580، وامتد سلطانه إلى الأراضي المنخفضة وإمارة برجنديا الحرة، وكلها كانت تعتبر ضمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة.

وكان فيليب الثاني كاثوليكيا متعصبا يساند الكنيسة الكاثوليكية وقد أخذ على عاتقه قيادة الحركة الكاثوليكية المضادة وإعادة مجد المذهب الكاثوليكي لا في أملاكه فقط بل في العالم كله.

وقد كان من نتائج الانقسام الديني في أوربا وظهور مصلحين معادين للكنيسة الكاثوليكية ويعتنقون مبدأ الكفاح والمقاومة في سبيل العقيدة، أن وجدت قوتان تتصارعان من أجل العقيدة إحداهما بروتستنتية كلقنية ومقرها في جنيف، وأخرى كاثوليكية ومقرها في روما، وقد أدى زهور هذا الصراع إلى الزج بكثير من الدول الأوربية في حروب دينية عنيفة من منصف القرن السادس عشر حتى الثلث الأخير من القرن السابع عشر.

وقد كانت الأراضي المنخفضة من الميادين التي اندلعت فيها الثورات التي اختلط فيها النضال الديني بالنضال السياسي، وكانت ثورتها أعظم كارثة جلت بأسبانيا في عهد فيليب الثاني، فقد أفضت بعد حروب طاحنة إلى تكبيدها خسائر كبيرة من الأموال والأرواح.

وكانت الأراضي المنخفضة أو البلاد الواطئة تشتمل على سبع عشرة مقاطعة حصل عليها في القرن الخامس عشر أدواق برجندية، ثم أصبحت تابعة للتاج الإسباني بزواج الإمبراطور مكسكليان ماري البرجندية، ثم ورثها عنه حفيده شارل الخامس ثم ابنه فيليب، وهي ولو أنها كانت جزءا من الإمبراطورية إلا أنها لم تخضع لسلطانها المطلق، لما فطر عليه أهلها من حب الحرية والميل إلى الاستقلال، ولذلك كانوا يتعرضون للاضطهاد وخصوصا في عهد شارل الخامس الذي استغل مواردهم في سد حاجة الإمبراطورية.

وكان أهم هدف يسعى إليه زعماؤها وحكامها هو توحيد حكومات تلك المقاطعات ولكن كان يحول دون ذلك ما كان بين الشمال والجنوب من الاختلافات الدينية والسياسية والعواطف القومية، إذ كان سكان المقاطعات الشمالية يدينون بوجه عام بالمذهب البروتستنتي ومعظمهم من الجنس التيوتوني، وينزعون إلى الحكم الديمقراطي بينما كان سكان الجنوب يتبعون الكنيسة الكاثوليكية في روما، وينتسبون إلى الجنس الكلي، ويميلون إلى أوتقراطية الحكم.

وعندما آلت الأراضي المنخفضة إلى فيليب الثاني كانت فكرة الاتحاد المشترك وضرورة قيام كيان واحد للأرض المنخفضة تتسلط على أذهان عدد كبير من المفكرين، وقد سنحت الظروف لهذه الفكرة أن تنمو وتتطور وتصبح ثورة هدفها التخلص من الحكم "الأجنبي" أو الأسباني في بلاد الأرض المنخفضة.

وقد عاش فيليب هناك فترة طويلة من عمره امتدت حتى عام 1559كان همه أثناءها تدبير الوسائل للقضاء على المذهب البروتستني لأنه كان يعتقد أن توحيد الملك لا يتأتى إلا بتوحيد الدين.

وكانت أول أخطائه السياسية أنه عند مبارحته الأراضي المنخفضة لم ينصب عليها حاكما من أبنائها، بل عهد إلى أخته مرغريت دوقة بارما([1]) (1559-1567) وعين موظفي الحكومة كلهم من الأسبان ووضع فيها قوات إسبانية، فساء ذلك أهل البلاد، وتجمعت عوامل الثورة في ذلك العهد الذي اتسم بالبطش والغلظة، وكانت السلطة الحقيقية في يد الكردينال جرانفلا Granavelle البرجندي الذي كان حائزا على ثقة فيليب الثاني ومشهورا بجوره وشدته، وقد بدأت المتاعب في الأراضي المنخفضة عندما اتسعت دائرة الحروب التي خاضتها إسبانيا واضطرت إلى مطالبة البلاد التابعة لها بالمساهمة فيها بالمال والرجال بما يزيد عن طاقتها، كذلك اتسعت سلطات محاكم التفتيش التي كان والده قد أدخلها من قبل في الأراضي المنخفضة، وقد ترتب على اتساع نطاق تلك المحاكم حركة سخط على الحكومة من الكاثوليك والبروتستنت على السواء.

ولما كان فيليب يتوقع قيام الثورة، دفع إلى الأراضي المنخفضة بقوات عسكرية متلاحقة، مما زاد في إذكاء الشعور القومي ضد الحكم الإسباني، ولما شعر فيليب بالخطر شرع في سحب تلك القوات وصرف النظر عن التمسك بما فرض على البلاد من ضرائب فادحة واضطر إلى تخفيفها، إلا أن المعارضة أخذت تقوى وتشتد وتنذر بقيام الثورة.

وفي ذلك الوقت انتشرت مبادئ كلفن الدينية وتحمس لها المواطنون وقابلت الحكومة هذه الحركة بوسال القمع والاضطهاد، وكانت الأحكام التي تصدرها محكمة التفتيش تنفذ بكل قسوة وغلظة، وقامت فئة من شباب المدن، وانضم إليهم عدد لا يستهان به من النبلاء الأحرار الذين كان هدفهم مقاومة أسبانيا، وألفوا جمعية لقبوها بالحلف compromise وأعلنوا أن أهم أهدافهم هو مقاومة محكمة التفتيش والمطالبة بإلغائها والتخلص من التحكم الأسباني في الأراضي المنخفضة.

وقد تزعم هذه الحركة القومية ثلاثة رجال، هم "وليم أورنج" الذي أشتهر باسم "وليم الصامت"، والكونت اجمونت "Egmont" وأمير البحر هورون، ولكن وليم أورنج كان أقدر الثلاثة وأقواهم شخصية، وقد تربى في بلاط الإمبراطور شال الخامس وكان محبوبا منه مغريا إليه، وقد عيّنه في أواخر أيامه حاكما على مقاطعات هولنده وزيلندة وأترخت، ولكنه في عهد فيليب الثاني كان حانقا على أسلوب الحكم الإسباني وعزم على مساعدة كل حركة قومية ترمي إلى طرد الأسبان من الأراضي المنخفضة.

وفي سنة 1563 توجه النبلاء الثلاث، وليم أورنج وأمير البحر هورن والكونت إجمونت، بالتماس للملك فيليب يطلبون فيه طرد جرانقل، واستجاب لهم فيليب بعد تردد شديد، ومع ذلك لم يغير فيليب سياسته تجاه الأراضي المنخفضة واستمرت محاكم التفتيش تتعقب البروتستنت والحكم بالحرق على كل من تحوم حوله شبهة التعرض للمذهب الكاثوليكي، وقد أثارت قسوة الأحكام كلا من البروتستنت والكاثوليك على السواء، وكان عدد لا يقل من خمسمائة من النبلاء من المذهبين قد انضموا إلى الحلف الذي يطالب بإلغاء محاكم التفتيش ووقف الاضطهاد الديني، وبذلك تعزز مركز المعارضة في الأراضي المنخفضة، وذهب وفد كبير من أعضاء الحلف إلى حاكمة البلاد مرجريت بارما لتقديم احتجاج الشعب على إدخال محاكم التفتيش الإسبانية إلى البلاد، فدخل الأميرة الخوف، فشجعها أحد رجال حاشيتها قائلا «تخافي بأس هؤلاء (الشحاذين)، ومن هنا لقب الحلف بهذا الاسم»([2]).

الثورة وأعقابها 1566-1567:

ورفضت الحكومة إجابة مطالب الحلف، فانفجرت على أثر ذلك الثورة التي اندلعت لهيبها في البلاد، وامتدت إلى الجماهير البروتستنتية –ومعظمهم من الكلفنيين المتعصبين- فاندفعن تخرب الكنائس والأديرة وتنهب ما فيها، وفي خلال أسبوع واحد تحطمت أربعمائه كنيسة ونزعت الصور من أماكنها وتحطم زجاج النوافذ المزينة بالألوان وسلبت كؤوس القربان المقدس الذهبية. ولم تقتصر الثورة على مدينة بعينها بل انتشرت عبر البلاد حتى وصلت إلى امستردام وانتورب وغيرها، وقد كان عماد هذه الثورة التخريبية عناصر الطبقات الكادحة من فلاحين وعمال واختلطت دوافع العقيدة الدينية بالدوافع الاقتصادية والظلم الاجتماعي بسبب سوء أحوالهم في كل المجالات.

وقد أدى هذا التخريب في الكنائس والأديرة الكاثوليكية إلى أثارة الكاثوليك وإحجامهم على المضي في تأييد الحلف الذي يجمعهم مع البروتستنت ضد الحكومة. وتراجع عدد كبير من النبلاءن سواء منهم الكاثوليك أو البرتستانت غير المتعصبين، فق هال النبلاء البروتستنت أن أتباعهم جمحوا في ثورتهم حتى لم يعد بمقدورهم السيطرة عليهم، وكانت مرجيت "الحاكمة قد أوجست خيفة من تفاقم الثورة، وكانت على وشك الفرار من البلاد، لولا أن "وليم أورانج" نصحها بالبقاء، ووجدت تشجيعا من النبلاء الذين حثوها على القضاء على الثوار واستعادة النظام، وانتهزت مرجريت فرصة سخط معظم الشعب الكاثوليكي على عنف الثورة وحركات التخريب فسحبت وعودها التي قطعتها على نفسها للنبلاء الذين التمسوا إلغاء محكمة التفتيش وأرسلت عدة فرق عسكرية للمحافظة على الأمن في المقاطعات الكاثوليكية.

أما فيليب الثاني فقد هاله ما حدث من انتهاك لحرمة الكنائس، وصمم على الانتقام لا من الثوار فحسب، بل أيضا من أولئك النبلاء الذين ساندوا من قبل حركة الثورة ضد الحكومة، ولما علم بذلك وليم أورنج غادر البلاد حيث انزوى في إحدى ضياعه بألمانيا (أبريل 1567) تاركا زميليه اجمنت وهورن لقدرهما، وبذلك نجا من المصير الذي كان محتوما عليه لو بقي في البلاد أيام حركة الانتقام.

أقام فيليب في الحال محكمة التفتيش في الأراضي المنخفضة وسيّر إليها أحد قواده العظام، وهو "دوق ألفا" "Duke Alva"، وقد عرف "ألفا" بالقسوة والبطش ولقب فيما بعد بجلاد الأراضي الواطئة، ووصل الدوق إلى البلاد على رأس جيش من الأسبانيين والإيطاليين، وكان وصوله نزيرا بارتكاب كل محرم في سبيل إخماد الثورة والقضاء على زعمائها.

وقد عهد فيليب إلى الدوق ألفا بسلطات واسعة مما جعل "مرجريب" تفضل اعتزال الحكم ومغادرة البلاد، فخلعت السلطة كلها له، وكأن أول إجراء اتخذه تكوين هيئة للاضطرابات كانت تكنى "بمجلس الدم"، وسلطتها أعلى سلطة قضائية في البلاد، حيث لا مرد لأحكامها، وكان أعضاؤها جميعا من الأسبان، وقدم آلاف من سكان البلاد إلى المحاكمة فقضت بإعدامهم، حتى كان الدوق "ألفا" يفتخر بان خلال مدة حكمه أعدم 18,600 مواطن بالبلاد المنخفضة وفرّ من البلاد ثلاثة أمثال هذا العدد، قصد معظمهم إلى انجلترا، أما اجمنت وهورن فقد لاقوا حتفهما من غير محاكمة عادلة، أما وليم اورنج فقد رفض العودة للمثول أمام (مجلس الدم)، وأعلن أنه أمير من أمراء أوربا، ولذلك لا يمثل أمام محكمة غير شرعية. وقد نشر على الناس ادعاءه الذي سماه بالتبرير Justification في عام 1568، واستعرض فيه جميع الأحداث في الأراضي المنخفضة، وترجمت رسالته إلى عدة لغات ووزعت في جميع أنحاء أوربا.

وقد غيّرت تلك الأحداث المثيرة من طبيعة "وليم أورنج"، وجعلته يخرج من صمته إلى العزم والتصميم على تحرير شعب الأراضي المنخفضة من الجور والظلم، واستطاع بكل صعوبة أن يجمع جيشا يهاجم به دوق "الفا" وقواته، رغم أنه كان يدرك ألا قبل له بمنازلة القوات الأسبانية المدربة، ولكنه اعتمد على حماسة الجنود الذين وهبوا أنفسهم للمعركة ضد الطغاة الإسبان.

على أن حماس الجند لم يكن وحده كافيا لإحراز النصر، فقد ظهر تفوق القوات الإسبانية على قوات وليم التي أرسلها تحت قيادة أخيه "لويس"، وتمكن "دوق" "ألفا" من النصر والقبض على ناصيه الحال، وحكم البلاد بالحديد والنار، وفرض الضرائب الفادحة على السكان ليبعث بها إلى إسبانيا التي كانت في أسوأ حالاتها الاقتصادية، واصبح الأهالي في محنة شديدة، وتعطلت حركة التجارة وكسدت ونصبت الموارد فعمّ السخط وساد الكساد.

واضطر كثير من السكان من الهجرة إلى البحر وانضموا إلى ملاحي سفن صيد الأسماك وقرصان البحر، واتخذ الجميع القرصنة وسيلة للهجوم على سفن أسبانيا ويهاجمون المواني الصغيرة في الجهات المولية لها بالأراضي المنخفضة، حيث كانوا ينقضون عليها فجأة وينتهكون حرمة الكنائس، يخربونها ويسلبون ما فيها من نفائس ويذهبون لبيعها في ميناء دوفر على الساحل الجنوبي الإنجليزي، وكانت انجلترا في أول الأمر تساعد هؤلاء القوم وتحميهم، ثم تنحت عن ذلك لأسباب سياسية.

وكان يرأس هؤلاء القراصنة الذين أطلق عليهم اسن شحاذي البحر وليم دي لامارك William de la March الذي هاجم بأسطوله سواحل زيلندة واستولى ثغر بريل Brill الحصين سنة 1572، ويعتبر استيلاء شحاذي البحر على هذا الثغر بداية للحركات التي ترتب عليها ظهور الجمهورية الهولندية.

قام الأسبان من جديد بإجراءات انتقامية شديدة العنف فصادروا الأملاك كتدابير مقابلة لما يقوم به الثوار من عنف ونهب، ونشطت محاكم التفتيش في إصدار أحكام التعذيب والحرق والشنق، ولم يزد ذلك الشعب إلا زيادة السخط على الأسبان وعزمهم على المضي في الثورة حتى يجلو آخر جندي أسباني، وكانت الثورة على أشدها في شمال البلاد، حيث قرر نواب من ولايات هولندة وزيلندة وأترخت وجلر رلان تنصيب "وليم اورنج" رئاسة الولايات الشمالية، ودعوه إلى قيادة قواتهم.

لقد كان النجاح في أول الأمر يبدو مستحيلا، إذ كان من العسير أن تتغلب حفنة من الجنود غير المدربين على جيوش دولة كبيرة كأسبانيا. ولكن طبيعة البلاد التي يحاربون فيها قد ساعدتهم مساعدة فعالة، فقد كان الثوار في حروبهم ضد الأسبان يتجنبون الالتحام وبهم في ميدان مكشوف بل يتحصنون داخل مدنهم المنيعة، وعندما يحاصرون يلجأون إلى هدم الحواجز والسدود التي بنيت لتقي بلادهم من البحر فتنطلق المياه منها على القوات الإسبانية المحاصرة لهم فتشتت شملهما.

ومما ساعد ثوار الأراضي المنخفضة أن أسبانيا –رغم قوة جيوشها- كانت تعاني إذ ذاك أزمة اقتصادية شديدة نتج عجزها عن الانفاق على تلك القوات حتى أن كثير من تمر الشهور تلو الشهور دون أن تدفع مرتبات الجنود، أضف إلى ذلك أن حروب الأراضي المنخفضة لم تكن المسألة الوحيدة التي تشغلها، بل إنها كانت منشغلة في حروب أخرى ضد فرنسا وضد إنجلترا.

لكل هذا استطاع الهولنديون الكالفنيون بصبرهم وثباتهم وصمودهم أن ينجحوا في انتزاع جزء كبير من الأراضي المنخفضة ويؤسسوا فيه حكومة مستقلة.

معاهدة غنت Ghent (نوفمبر 1576):

وكانت الحرب في أغلبها حرب حصار، حيث كان الهولنديون يصمدون وراء الأسوارن وكان أول نجاحهم في ليدن Lyden سنة 1574، حيث حوصرت حصارا طويلا، ولما يئس الهولنديون من خلاصها أشار وليم اورنج بقطع حبور البحر فتدفق الماء وشتت شمل الاسبانيين وأنقذت المدينة «وقد أسس وليم أورنج بها جامعة ليدن الشهيرة تذكارا للدفاع المجيد الذي أبلاه الهولنديون».

وفي عام 1576، نجح وليم في تحريض المواطنين في الجنوب على الانضمام إلى حركة مقاومة الاستعمار الإسباني مستغلا إذ ذاك سخط أهل الجنوب على ما حدث من القوات الإسبانية عندما تأخرت مرتباتهم التي ترد إليهم من أسباينا، فقد قدموا على مهاجمة مدينة أنقرس Antuverp (نوفمبر 1576) وذبحوا الآلاف من السكان ونهبوا مساكنهم وتركهوها خرابا، وقد كان من أثر هذه الحادثة أن حدث تقارب قومي بين الولايات الشمالية والجنوبية، واجتمع عدد كبير يمثل السبعة عشر ولاية من بروتستنت وكاثوليك، وعقدوا فيما بينهم معاهدة غنت التي كان هدفها طرد الأسبان وتأسس نوع من الحكم الذاتي، ثم القضاء على أنواع الاضطهاد الديني وتكوين مجلس من بينهم تمثل فيه كل الولايات وتكون غايته محاولة القضاء على الخلاف الديني وأخيرا قرروا ألا يلقوا السلاح حتى تتحرر الأرض وتتطهر البلاد من القوات الأجنبية، ولكن الواقع أن دوام الاتحاد بين الشمال والجنوب لم يكن أمرا سهلا ولا متيسرا، ولو دام هذا الاتحاد لاستطاعت بلاد الاراضي المنخفضة أن تناول استقلالها في وقت أقصر، وبنجاح أكبر، إلا أن الخلافات الناشبة بين الفريقين كانت عميقة بسبب تناقض المصالح بين الشمال والجنوب، وقد لعب الأسبان دورا كبيرا في اذكار نار الخلاف والتفرقة وخصوصا عندما وصل الحاكم الإسباني الجديد دون جون Don John، أخو فيليب الثاني الذي عين حاكما عاما واتبع سياسة التقرب من أهل الجنوب، وتظاهر بالموافقة على شروط معاهدة غنت على شرط أن يبقى الحاكم الأسبان صاحب السلطة العليا في البلاد، وأن تسلم إليه القلاع الشمالية.

حكومة دون جون واتحاد ارتخت:

وبتسلم دون جون السلطة في البلاد، تقلّص نفوذه وليم أورنج في الجنوب، وانحصر في الولايات الشمالية، ولم يعد كما كان زعيما لجميع بلاد الأراضي المنخفضة، إذ كان أشراف الجنوب يعارضون آراءه ومذهبه، ورأى أنه إنما يحاول عبثا توحيد البلاد كلها، شمالها وجنوبها، في وحدة واحدة، كذلك لاحظ أن الجنوبيين ليسوا على استعداد لصيانة شروط معاهدة غنت، وأن من الخير له ولوطنه أن يقنع بتحرير الولايات الشمالية التي تدين له بالزعامة، ونجح في توحيد سبع ولايات في الشمال في اتحاد واحد، هو اتحاد أترخت عام 1579 وأنتخب وليم رئيسا لذلك الاتحاد.

وفاة دون جون وتعيين اسكندر دوق بارما:

وعندما توفي "دون دون" عين الملك "فيليب" اسكندر دوق بارما خلفا له حاكما عاما على البلاد وكان رجلا عسكريا وسياسية في آن واحد، كان كل همة تحطيم الجهة القومية والقضاء على اتحاد اترخت، واستطاع أن يستميل إلى جانبه المقاطعات الواقعة في أقصى الجنوب، وكان صدى ذلك صمود المقاطعات السبع التي كونت اتحاد ترخت وتمسكهم بزعامة وليم اورنج.

وعندما وصلت أنباء ذلك الاتحاد إلى أسماع فيليب ثارت ثائرته على وليم أورنج وأصدر قرارا يعلن فيه أن وليم عدو البشرية وأنه يمنح مكافأة سخية لمن يقتله، وقد كان القرار بإباحة دم وليم من أكبر الأسباب التي دعت الهولنديين في الولايات الاتحادية إلى العدول عن التظاهر بالولاء لفليب، وجهروا رسميا بالخروج عليه وقالوا «إن الملك إذا لم يكن في رعيته كالراعي في قطيعه واسترقهم وسار فيهم سير الظلم والطغيان، حق لهم شرعا أن يخلعوه ويولوا غيره».

وقد كان هذا البيان، مبدأ تردد صداه في الثورات التي قامت بعد ذلك في انجلترا وأمريكا وفرنسا.

أما وليم فقد قرر الاستعانة بالدولة الأجنبية، فعرض على دوق أنجو شقيق ملك فرنسا أن يكون حليفا وحاميا للولايات فقيل الدوق ذلك العرض، ولكنه كان يضمر في نفسه أطماعا سياسية لا يقرّها وليم، إذ كان الدوق يهدف إلى الحكم كملك على عرش تلك الولايات، ولم يقنع بالسلطة المحدودة التي منحت له، فحاول فرض سلطانه بالقوة فاحتل بعض البلاد بجنده، وعزم على الاستيلاء على أهم مدنها وهي انقرس (انتورب) فدافع أهلها عنها دفاع الأبطال، وعندما تم فشله عاد إلى فرنسا توفي في العام التالي 1584.

ومما هو جدير بالذكر أن انجلترا كانت تعطف على الهولنديين، وتطوع عدد من الانجليز من القوات الهولندية، إلا أنها لم تقدم أية مساعدة فعالة لوليم أورنج.

وبعد طرد الأمير الفرنسي "دوق أجلو" كونت الولايات الشمالية حكومة دستورية برآسة "وليم أورنج"، ولكن لم تطل حياة هذا البطل كرئيس للدولة إلا مدة يسيرة، فإن المكافأة التي أعلن عنها فليب دفعت بعض السفاحين إلى محاولة أغتياله، ونجح أحدهم أخيرا في يوليو 1584 وكانت تلك هي المرة السابعة التي حاول الطامعون في المكافأة قتله.

وقد كان لوليم أورنج الفضل الأكبر في تأسيس الدولة الهولندية الحديثة، وهو مع قلة نبوغه في الفنون الحربية كان قدوة لشعبه في الصبر والشجاعة والإقدام، وهو الذي استطاع أن يجمع شمل الأحزاب المتضاربة التي قامت بالثورة.

وخلفه ابنه "موريس" الذي أظهر مهارة حربية ساعدت الولايات الشمالية على الاحتفاظ باستقلالها، بفضل حذقه وقدرته ومساعدة "إليزابيت" ملكة انجلترا وهنري الرابع ملك فرنسا، وذلك بينما كانت كل الجهات الجنوبية قد أخضعها اسكندر بارما لأسبانيا وأصبحت مقاطعاتها العشر تعرف بالأراضي المنخفضة الأسبانية، وأصبح سكانها من البروتستنت أمام اختيارين، أما أن يكونوا كاثوليكا أو يهاجروا إلى الشمالن وهكذا أصبح الجنبو (بلجيكا الحالية) بأكلمه كاثوليكيا، بينما ازداد عدد البروتستنت في الشمال، ولكن الكاثوليكية لم تنعدم هناك (أي في هولندة الحالية) بل بقي ما يقرب من ثلثي السكان متمسكين بمذهبهم الكاثوليكي، وكان المذهب الذي ساد أغلب البروتسنت هو مذهب كلفن، واتبع الهولنديون مبدأ التسامح الديني مع مواطنهم الكاثوليك.

وقد ساعد الهولنديون على الاحتفاظ باستقلالهم أن فيليب كان منشغلا عنهم بمتاعبه التي لا تنتهي في أملاكه الأخرى، وذلك بالإضافة إلى حربه مع انجلترا وتدمير اسطوله الكبير (الأرمادا) 1580 واضطراره إلى إرسال النجدات إلى الكاثوليك في فرنسا، وكذلك انشغال حاكم الأراضي المنخفضة اسكندر يارما بين حين وآخر بحملات يأمره بها فيليب للسير بها نحو فرنسا مما يضطره للغياب عن البلاد فترات من الزمن.

وظلت الحرب مستعدة بين الهولنديين بقيادة "موريس أورنج" وبين الأسبان الذين كانوا يرزحون تحت أعباء الحروب التي يخوضونها في الميادين الأوربية العديدة والتي أدت إلى تحطيم اقتصاديات بلادهم، فلم يكن هناك بد من التسليم بالأمر الواقع فيعترفوا بهزيمتهم.

ولذلك عرضوا في عام 1609 على جمهورية هولندة هدنة طويلة الأمد مدتها اثنتا عشرة سنة، والواقع أن هذه الهدنة تعتبر اعترافا ضمنيا باستقلال هولندة.

وعلى اثر انفضاء هذه المدة، اندلعت الحرب مرة أخرى واستمرت كذلك حتى تم توقيع معاهدة وستقاليا سنة 1648 والتي تضمنت اعتراف أسبانيا والإمبراطورية باستقلال هولندة نهائيا.

وقد كان لنجاح الثورة الهولندية وانتصارها على دولة من أعظم الدول الأوربية قوة أثره الكبير في نفوس الشعوب المناضلة من أجل استقلالها وقوميتها ومعتقداتها، وكان له فضل كبير في حفظ وتقوية كيان المذهب البروتستنتي.

ومنذ أن تم لهولندة الاستقلال أخذت تخطو خطوات واسعة في سبيل العمران والتقدم، وازداد عدد سكانها بنزوح أعداد كبير من البروتستنت من سكان الولايات الجنوبية التي بقيت مدة طويلة تحت الحكم الاسباني، كذلك هاجر إليها أعدادا أخرى من بروتسنت ألمانيا وفرنسا، ولما ازداد عدد السكان في بعض الجهات اتخذوا البحر وسيلة للعيش، واتخذوا القوارب سكنا لهم، وأدى زيادة عدد السكان على تخفيف بعض المستنقعات في داخل بلادهم.

ثم أصبح لهولندة شأن كبير في عالم التجارة، فإن سفن من كان يطلق عليهم "شحاذي البحر" الذين ساهموا بقسط وافر في سبيل استقلال بلادهم أخذت تجوب البحار يخفق عليها العالم الهولندي، حاملة السلع والبضائع، وتوزعها من بلادها على مختلف أنحاء أوربا.

وازداد التوسع الهولندي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر وأصبح أسطولهم التجاري من أقوى الأساطيل الأوربية مما جعلهم يتحكمون في بحر الشمال، ويجوبون بحر البلطين، وينافسون الأسبان والبرتغاليين في احتكار التجارة في جزر الهند الشرقية والغربية.

وفي سنة 1601، تأسست شركة الهند الشرقية الهولندية بقصد احتكار التجارة في الشرق الأقصى، وأدى نشاط تلك الشركة إلى تأسيس أمبراطورية استعمارية هولندية في أرخبيل الملايو.

وظلت الجمهورية الهولندية تتمتع بالثورة والرخاء حتى منتصف القرن السابع عشر، وبعد ذلك ظهرت قوات استعمارية فرنسية وانجليزية تحاول الدخول مع هولندة في تنافس شديد كان من أثره أن بدأت الإمبراطورية الهولندية في الضعف والانحلال.                    



([1])-كانت مرغيبت ابنة غير شرعية للإمبراطور شال الخامس. وكانت امرأته قديرة ذات شخصية قوية.

([2])-أطلق هذا الاسم على الحلف في اليوم التالي لتقديم الاحتجاج عندما اجتمع أعضاؤه وقال أحدهم: لقد أطلقوا علينا لقب الشحاذين فدعونا نحتفظ بهذا الاسم.


قائـمة المراجع المعتمدة

1-                             موريس كروزيه، تاريخ الحضارات العام،ط2، منشورات عويدات، بيروت، 1987.

2-         جان بيرنجيه وآخرون، أوروبا منذ بداية القرن الرابع وحتى نهاية الثامن عشر، ط1، منشورات عويدات، بيروت، 1995.

3-         خليل علي مراد وآخرون، دراسات في التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل،1988.

4-         عبد الحميد البطريق وعبد العزيز نوار، التاريخ الأوروبي الحديث من عصر النهضة إلى أواخر القرن الثامن عشر، دار الفكر العربي، القاهرة،1982.

5-                             عبد الحميد البطريق، التيارات السياسية المعاصرة1815-1960،بيروت،1974.

6-         عبد العظيم رمضان، تاريخ أوروبا والعالم الحديث من ظهور البرجوازية الأوروبية إلى الحرب الباردة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1997.

7-         جلال يحيى، التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر حتى الحرب العالمية الأولى، الإسكندرية،1983.

8-                             هـ.أ.ل .فشر، تاريخ أوروبا في العصر الحديث(1789-1950)،ط7، القاهرة،1976.

 

   اقرأ ايضا:

التوسع الأوروبي وحركة الكشوف الجغرافية

حركة الاصلاح الديني

النهضة الأوروبية

انتعاش الكنيسة الكاثوليكية حركة الإصلاح المضادة

حرب الثلاثين عاما(1618-1648)

إنجلترا في القرن السادس عشر (عصر أسرة تيودور) 1485-1603

إسبانيا وثورة الأراضي المنخفضة

الثورة الفرنسية

 

 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة