U3F1ZWV6ZTIwMTU5Nzc5NjQ2Nzg5X0ZyZWUxMjcxODUzMjIzNDU3Nw==

حركة الإصلاح الديني

 

 حركة الإصلاح الديني



 حركة الإصلاح الديني

تمهيد
الانقسام العظيم
الإصلاح الديني في ألمانيا
مارتن لوثر وحركة الإصلاح 1483-1546
حرب الفرسان
ثورة الفلاحين سنة  1523
موقف الإمبراطور
المجلس الإمبراطوري في سبير 1526
المجلس الإمبراطوري الثاني في سبير 1539
مجلس أوجزبرج 1530
حلف شمالكالد ديسمبر 1530
المجلس الإمبراطوري في نورنمبرج 1532
مجلس ترنت 1545
مجلس أوجزبرج والنظام الموقت
صلح اوجزبرج 1555
زونجلي وكلفن
الاتحاد السويسري
زونجلي
جون كلقن
قائـمة المراجع المعتمدة



تمهيد:

لم تكن حركة الإصلاح الديني في أوربا ثورة مفاجئة، ولكنها كانت حركة لها أصول وجذور في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، فقد تعرضت على مدى العصور لعدة أخطار كانت تجتازه المرة تلو الأخرى، على مدى القرون الوسطى ومطلع العصور الحديثة، ونستطيع تقسيم تلك الأخطار إلى قسمين: أخطار تعرضت لها في عصورها الأولى عندما كان الانقسام يثور حول مسائل دينية معينة، وما تعرضت له المسيحية من خطر ظهور الإسلام وانتشاره في القرن السابع الميلادي، وما تبع ذلك من سقوط القسطنطينية في أيدي المسلمين الأتراك في القرن الخامس عشر وزحف المغول من الشرق على قلب أوربا، إلا أن هذه الأخطار كانت في الواقع من عوامل تماسك الكنيسة ومقاومتها أعداء المسيحية في الخارج.

وأما أخطار القسم الثاني فقد تجلت عندما خفّ الضغط الموجه من الخارج على الكنيسة إذ تعرضت البابوية لهزات عنيفة بعد أن بلغ النفوذ البابوي ذروته في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وبعد ذلك فقد تغير مركز البابا عندما جمع بين صفته الدينية كرئيس للكنيسة المسيحية. وصفة أخرى اكتسبها كحاكم دنيوي لا يقل عن الملوك والحكام، فصار يحكم  ولايته حكما زمنيا. وله بلاط ينافس بلاط الملوك والأمراء في الترف والانحراف، وقد فقت البابوية هيبتها في القرن الرابع عشر وخاصة في الفترة ما بين عامي 1305 و1377 عندما انتخب مجلس الكرادلة رئيس أساقفة بوردو بفرنسا ليعتلي عرش البابوية  باسم البابا كلمنت الخامس، ورأى البابا الجديد أن يبقى في فرنسا وتمت مراسم توليه البابوية في ليون بدلا من روما، وجعل مدينة أفينون على نهر الرون مقرا جديدا للبابوية التي طلت هناك حوالي اثنتين وسبعين سنة خاضعة للملكية الفرنسية حتى أطلق على هذه الفترة اسم (الأسر البابوي)، وبذلك فقدت البابوية الشيء الكثير من سمعتها وزعامتها العالمية.

الانقسام العظيم:

وازداد انهيار المركز البابوي في عام 1378 عندما حدث الانقسام البابوي العظيم The Great Papal Schism (1378-1417)، فقد جرى انقسام بين الكرادلة نتج عنه اختيار اثنين من البابوات أحدهما في أقنيون والآخر في روما، وبذلك  ظهرت عوامل التفرقة والتفكك في العالم  المسيحي، وكان من آثار المساوئ التي ترتبت عن الأسر البابوي في فرنسا، والانقسام العظيم أن سلطة البابا أصبحت موض ع جدل ونقاش، أخيرا اجتمع المجتمع الكنسي في كونستانس Constance (1414 –1417) وقرر حسم المشكلة والقضاء على الانقسام بانتخاب رجل واحد هو البابا مارتن الخامس Martin V  على أن تكون روما وحدها مقرا للبابوية.

وهكذا مرت البابوية في ظروف دقيقة أفقدتها هيبتها وعظمتها القويمة، وزادها انهيارا أن البابوات أصبحوا جماعة من المترفين الذي لا يعنيهم أمر الكنيسة بقدر ما يعنيهم جمع المال لتحقيق مصالحهم الخاصة ومصالح أقاربهم والمحيطين بهم، مما دفع بعدد من المفكرين والمصلحين يبحثون الموقف وكان ذلك نذيرا بوجود معارضة شديدة لما وصلت إليه حالة الكنيسة الكاثوليكية والمطالبة بالإصلاح ومرت حركة المطالبة بالإصلاح بمرحلتين الأولى مرحلة كان المرتبطون بالإصلاح الديني يطالبون الكنيسة بإزالة مفاسدها وتنظيم شئونها على أيدي رجالها أي تصلح الكنيسة نفسها بنفسها، وبذلك يأتي الإصلاح من الداخل والثاني يطلب فياه المصلحون الكنيسة أن تقبل مرغمة ما يفرض عليها من الوسائل التي يقترحونها ما دامت قد فشلت في إصلاح نفسها.

وكان كبار المصلحين في المرحلة الأولى يوحنا روكلن 1455-1522 وإرزم (1477-1536)، أما الأول فقد أثار بكتاباته وانتفاداته تفكير المثقفين. وأصبح له أتباع وتلاميذ يبحثون في مساوئ الكنيسة ومثالها. وينتقدون ما تفشى على يد الكنيسة من بدع وخرافات ونجحوا في تهدئة الرأي العام بفكرة الإصلاح الديني.

وأما (إرزم) فقد سعى في تأليب الرأي العام ضد البابوية. ومفاسدها بما كان ينشر على الناس من آراء سديدة وأفكار متحررة [1](، وأهم عمل أدبي قام به هو نشره ترجمة للكتاب المقدس اليوناني القديم (العهد القديم وقد كان لهذه الترجمة أثرها في تخليص الفكر الإنساني من سيطرة رجال الدين، وذلك لأن هذه الترجمة التي نشرها عام 1516 عن النص اليوناني أظهرت أن نسخة الكتاب المقدس اللاتيني التي اعتمدت عليها الكنيسة لم تكن الوثيقة الأصلية. وأن بها أخطاء في عدة مواضيع. وكانت تلك سبيلا إلى فهم الدين، وأفادت تفسيراته القارئ العادي. وقد ترجمت شروحه وتفسيراته إلى اللغة الانجليزية.

 وهكذا ساعد كل من روكان وإرزم على خلق جوّ من المعارضة للكنيسة وتهيئة الأفكار لتقبل حركة الإصلاح الديني رغم أنهما لم يقصدا الخروج على الكنيسة الكاثوليكية، ولكنهما كانا يناديان بأن يأتي الإصلاح من داخل الكنيسة نفسها. ولكن بعد أن فشلت الكنيسة في الاستجابة لإصلاح من الداخل، قام مصلحون آخرون يطالبونها أن تقبل الإصلاح إن اختيارا أو كرها وعندئذ بدأت المرحلة الثانية التي كان مارتن لوثر أول زعمائها وأشدهم تأثيرا في تاريخ الإصلاح الديني. وقد بدأت ثورته في ألمانيا.

وقد بدأت الثورة الدينية في ألمانيا نظرا لظروف ألمانيا الخاصة، فقد كانت المعتقدات الدينية وفلسفة اللاهوت أرسخ فيها من إيطاليا مقر البابوية، وكان بها عدد من المفكرين تعرضوا بالنقد لعيوب البابوية ومثالبها، المالية والأدبية، وقد ساعد على نشر آرائهم اختراع الطباعة في شمال ألمانيا مما سهل على الطبقة الألمانية المثقفة الإطلاع على أوجه النقد الموجهة إلى الكنيسة ومشاركة كبار الكتاب آراءهم وفلسفتهم الدينية.

وقد كان للموقف السياسي في ألمانيا في ذلك الحين أثره الواضح قيام تلك الثورة الدينية، فقد كانت ألمانيا منقسمة إلى مئات من الولايات شبه المستقلة لا يجمعها سوى انتمائها الاسمي لحكم أمبراطور الدولة الرومانية المقدسة .

وكانت البلاد كلها تمرّ في أزمة اقتصادية واجتماعية وروحية تجمعت كلها في مطلع العصور الحديثة. فالطبقة المتوسطة (البورجوازية) كانت تواجه أزمة خطيرة هي محاولة استعادة ما كان لها من ثروة ومركز اجتماعي محترم تمتعت به زمن العصور الوسطى، عندما كانت ألمانيا بموقعها الجغرافي وسط أوربا ما تزال غنية.

كذلك كان عدد من صغار النبلاء يؤلفون طبقة خاصة في البلاد وهي طبقة الفرسان Knights التي كان لها شأن حربي خطير في العصور الوسطى، وعندما دهم الإمبراطورية ذلك الانحلال الذي حدث في بداية العصور الحديثة وقسمها إلى إمارات محلية يسيطر عليها الأمراء. فقد الفرسان أهميتهم التقليدية القديمة، ولم يجدوا سبيلا للعيش وجمع الثروة سوى القيام بأعمال السلب والنهب عندما تسنح لهم الظروف، ومع ذلك لم ينسوا ما كان لطبقتهم في الماضي من مجد ونفوذ، ولهذا كانوا ساخطين على ما وصلت إليه حالتهم ومركزهم ومعيشتهم.

أما طبقة الأمراء والنبلاء فلم يكن باستطاعتهم الاطمئنان على سلامة أملاكهم وتدعيم نفوذهم. كما لحقتهم الأزمات المالية بسبب نفقات الإدارة ومطالب الحكم، ثم أنهم كانوا يدركون أن أغلب موارد الأرض في ولاياتهم تذهب للكنيسة الكاثوليكية والبابوية التي تتخذ مقرها في بلاد أجنبية، ومن ثم كان لها نفوذ خطير في بلادهم، حيث تتدخل في تعيين رجال الكنيسة والوظائف المتصلة بها، وأصبح هم أولئك الموظفين الذين تعينهم الكنيسة الكاثوليكية أن يجمعوا الأموال من الأرض الألمانية لترسل إلى روما.

ومما تقدم يتبين مدى إجماع معظم الطبقات على السخط على الكنيسة الرومانية ولذلك كانت ألمانيا أرضا صالحة لقيام الثورة الدينية، وجاءت حركة مارتن لوثر كحركة تعبير جماعية عن إرادة الشعب في تغيير الأوضاع الدينية السائدة.

الإصلاح الديني في ألمانيا:

كانت ألمانيا قبل بداية العصور الحديثة تمثل ما تبقى من الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكانت تلك الإمبراطورية تتكون من اتحاد مئات من الولايات شبه المستقلة، ولما تولى الإمبراطور مكسمليان (1493-1519) عرش الإمبراطورية ظهرت في ألمانيا نهضة قومية ولكنها لم تستطع أن تصل إلى تكوين حكومة مركزية قوية، حركة النهضة الأوربية كان لها أثرها الفعال في إطلاق الأفكار من عقالها في ألمانيا، ونظرا لظروف ألمانيا الخاصة فقد ظهرت تلك النهضة بمظهر ديني حيث بدأت بها حركة الإصلاح الديني.

كانت الكنيسة في ألمانيا تسيطر سيطرة خطيرة على مقررات البلاد منذ أن سادت في العصور الوسطى النظرية بأن البابا هو ظل الله على الأرض. وهي النظرية التي حجبت سلطان الحكام الأوربيين من أباطرة وملوك، باعتبار أن السلطة تأتي من عند الله، وبما أن البابا يمثل سلطة الإله على الأرض فكل سلطة إذن تشمل في شخصه حتى أصبح كل حاكم يشعر بأن للبابا في بلاده نفوذ لا يقل عن نفوذه، وكان للكنيسة أملاك في كل دولة من الدول الأوربية يتصرف فيها البابا تصرف المستقل، يفرض الضرائب على الرعايا في أي بلد من البلاد لمصلحة الكنيسة ويعيّن رجال الدين الذين يختارهم دون تدخل من عاهل الدولة.

وعندما تولى العروش في أوربا –في عهد النهضة- ملوك أقوياء كما حدث من فرنسا وأسبانيا وإنجلترا، أخذ هؤلاء الملوك على عاتقهم معارضة سلطة البابا في بلادهم ونجحوا إلى حد كبير في تحدي سلطانه ونفوذه.

ففي فرنسا أصدر الملك شارل السابع في عام 1438 مرسوما ملكيا تحدى به سلطة الباب وسيطرته على شؤون الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، وبدأ هو ومن خلفه من الملوك يصدرون الأوامر بتعيين الأساقفة وغيرهم من رجال الدين في بلادهم وهو الذي كان حقا ثابتا للبابوات من قبل.

وفي إسبانيا، في عهد فردناند وإيزابيلا أصبح من حق التاج تعيين رجال الكنيسة، وقد صدر أول مرسوم بذلك في عام 1442، وصدرت الأوامر بتحريم استئناف الأحكام التي تصدرها المحاكم الدينية في أسبانيا أمام المحكمة العليا في روما.

وفي إنجلترا أخذ سلطان البابا بها ينهار شيئا فشيئا منذ منتصف القرن الرابع عشر حتى تخلص الملوك نهائيا من التدخل البابوي في الشؤون الدينية للبلاد كما سيأتي ذكره.

أما ألمانيا، فقد احتفظت الكنيسة الرومانية بقوتها وسلطانها وذلك لسبب ضعف الإمبراطورية وعلى الأخص في عهد الإمبراطور "فردريك الثالث" الذي استمر حكمه ثلاثا وخمسين سنة (1440-1493) وقد أكد هذا الإمبراطور إدعاء البابوية عندما عقد اتفاق فينا عام 1448 والذي ثبت فيه حق البابا في السيطرة على الكنيسة الألمانية وعلى ذلك ظل الباب يمارس في ألمانيا نفس الحقوق التي كانت لبابوات القرون الوسطى.

وقد تغالى بعض البابوات في التحكم وفرض الإرادة على الشعب الألماني، وأرسلوا إلى ألمانيا أتباعهم من رجال الدين يجمعون المال بكافة السبل، وارتكبت رسل البابا جرائم الرشوة والابتزاز فكانوا يقبلون المال من المرشحين لوظائف الكنيسة، ويجمعون المال بحجة الاستعداد لحرب صليبية قريبة ضد الأتراك العثمانيين، وغير ذلك من الحيل التي كان البابوات يلجأون إليها لسد حاجتهم من المال ينفقونها لتحقيق أطماعهم السياسية، والتشبه بالملوك والأمراء من الاستمتاع بالحياة المرفهة واقتناء النفائس الفنية من روائع فناني النهضة الإيطالية، حتى أصبح البابوات في هذه الفترة من التاريخ جماعة من المترفين الذين لا يعنيهم من أمر الكنيسة بقدر ما يعنيهم تحقيق مصالحهم الخاصة ومصالح أقاربهم وذويهم.

ولم تكف المجالس النيابية (الريخستاج) في الولايات الألمانية في النصف الثاني من القرن الخامس عشر من التنديد بتلك المثالب ووسائل ابتزاز الأموال باسم الكنيسة وكانوا يبعثون باحتجاجتهم في رسائل متعددة إلى روما دون جدوى.

ولعل أسوأ مظهر من مظاهر ابتزاز الأموال هو التوسع في بيع صكوك الغفران مما أثار المعارضة والجدل، وابتداع هذه الصكوك يرجع إلى عام 1300 ميلادية عندما ابتكر البابا بونيفاس السابع Boniface VII مرسوما بابويا مقدسا يعرف بالغفران ويقضي بأنه إذا اعترف شخص اعترافا كاملا بذنوبه وتبرأ منها وندم ندما حقيقيا على خطاياه، فإنه يتخلص من عقاب الآخرة، (كان إرزم حلقة اتصال بين حركة النهضة وحركة الإصلاح الديني، وقد ولد في روتردام بهولندة ودرس بها اللاهوت ثم انتقل إلى جامعة باريس حيث درس اللغة اللاتينية وأجادها ثم أخذ ينتقل من جامعة إلى أخرى حيث اختلط بكبار العلماء والأساتذة، وفي سنة 1498 زارا انجلترا، وقابل عددا من الباحثين في اكسفورد من درسوا اليونانية، فتاقت نفسه لدراستها حتى أصبح أشهر علماء العصر في الآداب والعلوم الكلاسيكية)  ولكي يحصل على هذه المغفرة، عليه أن يدفع لقاء ذلك هبة مالية، وظل ذلك تقليد على مدى الأجيال يقبل عليه الجهلاء ويعارضه المفكرون إلى أن أرسل الباب أحد الرهبان واسمه تتزل Tetzel في عام 1518لتوزيع صكوك الغفران على الناس في ألمانيا، وكان البابا قد خوّله جميع الأموال لبناء كنيسة القديس بطرس في روما، وكان المؤمنون برسالة البابا يدفعون مقابل هذه الصكوك مبلغا معينا من المال، مما أثار المصلح الكبير مارتن لوثر وجعله يتزعم ثورة دينية لإصلاح الكنيسة ترتب عليها ظهور المذهب البروتستاني، وهو مذهب ثوري لم يقتصر أصحابه على المطالبة بوجوب تصحيح مساوئ الكنيسة فحسب، بل طالبوا بإصلاح الكنيسة نفسها، وإقامة كنيسة تؤسس على المبادئ والأسس المستمدة من الإنجيل.

مارتن لوثر وحركة الإصلاح 1483-1546:

ولد مارتن لوثر في قرية ثورينجيا بمقاطعة سكسونيا من أبوين يعيشان على فلاحة الأرض، وعاش في حداثة سنة في بيئة انتشرت فيها الخرافات الدينية والمعتقدات الزائفة التي صورت المسيح في صورة المنتقم الجبار، الذي يتوعد  الناس بأقصى أنواع التعذيب والعقاب في الآخرة، فتسلط على مارتن الخوف وتملكه القلق والإحساس بالرهبة من الانتقام الإلهي، ولم تقنع نفسه بالوسائل التي كانت تقدمها الكنيسة لتهدئة عذابه النفسي.

عني والداه بتعليمه رغم فقرهما فأرسلاه إلى المدرسة، ثم إلى جامعة إرفورت لدراسة القانون، إلا أنه بما تسلط عليه من خوف وقلق ديني قرر عام 1505 أن ينخرط في سلك الرهبنة لعل في ذلك نجاة له من خطاياه وخلاص له من ذنوبه، ودخل دير أوغسطين حيث انكبّ على الصلاة والتقشف وتعذيب النفس أملا في الوصول إلى رحمة الله وعفوه، ورسم كاهنا في عام 1507، وفي الوقت نفسه كان يدرس علم اللاهوت حتى نال شهادة الدكتوراه واستدعى للتدريس في جامعة قتنبرج Wittenberg بمقاطعة سكونيا سنة 1508، حيث لمع اسمه والتف حوله الرواد من تلاميذه المعجبين بآرائه وتأملاته، ولا سيما في المسألة التي كانت تشغل باله، مسألة (الخلاص) والتطهر من الخطايا.

وفي عام 1510 زار روما، والع بنفسه على مفاسد البابوية، فازدادت شكوكه وعظم ارتيابه، فظل يفحص ويتأمل حتى اهتدى إلى العقيدة التي بعثت في نفسه الهدوء والرضا والطمأنينة، وتتلخص نظريته في أن الإيمان المطلق برحمة الله يكفل النجاة عن عقابه، وأن الصلاة والعبادة بجميع طقوسها وأشكالها ليست كافية للخلاص من الخطايا، وإنما يتخلص الإنسان من خطاياه بإسداء الحمد والشكر من قلب طاهر سليم على العليّ القدير، تلك هي العقيدة التي اهتدى إليها مارتن لوثر من دراسته للكتاب المقدس، ورسالة الرسول بوليس إلى مسيحي روما، وسميت بعقيدة التبرير بالإيمان ، وقد عاش لوثر بهذه العقيدة راضيا مطمئنا لبضع سنوات، يبشر بها بين تلاميذه في هدوء وسلام دون تدخل من السلطة والكنيسة، إلى أن جاء دوره ليعلن على الملأ مبادئه وآراءه التي كان لها أثرها الكبير في تغيير مجرى التاريخ الأوربي كله.

ففي عام 1517 جاء إلى ألمانيا الراهب تتزل الذي أشرنا إليه ليوزع صكوك الغفران فأثار ذلك مارتن لوثر، ورأى أن يعلن  احتجاجه علنا، وانتهز فرصة اجتماع الناس على عادتهم في كنيسة قتنبرج في أول نوفمبر من كل عام وعلّق على باب الكنيسة احتجاجا طويلا يشتمل على 95 مادة ضد صكوك الغفران، وأعلن في وثيقته عقيدة التبرير بالإيمان، وأن الغفران رهن برحمة الله وحدها، وأن البابا لا يستطيع التدخل في غفران الذنوب، ثم دعا لوثر كل من يشاء من العلماء لمناقشة الحجج التي ساقها تأكيدا لمذهبه.

وفي أثناء جداله مع يوحنا تتزل وغيره من مؤيدي الكنيسة تعرض لوثر بالنقد اللاذع لنظام الكنيسة وسلطتها العليا وتعاليمها، وصرح بأن الكتاب المقدس وحده هو القانون الذي يرجع إليه ويعتمد عليه في تفسير العقائد وفي جميع المسائل المختلف عليها، وأن كل شخص مثقف باستطاعته أن يقرأ الإنجيل وهو حرّ في تفسيره على حسب فهمه وإدراكه له وأن ليس للبابا الحق في احتكار تفسيره، كذلك يجب إباحة الزواج للقس وإخضاع رجال الدين للسلطة الزمنية.

وقد لاقت آراء لوثر رضاء الكثيرين، والتف حوله أتباع محتمسون في ألمانيا وهم أولئك الساخطون على تصرفات الكنيسة في روما وتحكم البابا في رقاب العباد، وادعاء بأنه بواسطة الغفران عند الله، وفي عامي 1519 و1520 عبأ لوثر الرأي العام بسلسلة من الكتابات الدينية التي ضمنها تفسير العقيدة الجديدة وأوضح أن ادعاء الاكليروس بأنهم أصحاب الكلمة الأخيرة وأنهم يختلفون عن عامة الناس محض ادعاء كاذب، وأن على الناس أن يبحثوا عن الحقيقة بأنفسهم في الكتاب المقدس، وفي الوقت نفسه وجه الدعوة إلى أمراء ألمانيا وفرسانها يهيب بهم أن يتزعموا حركة الإصلاح، وبني تلك الدعوة لهم على أساس أن رجال الدين خاضعون للسلطة الزمنية، وأن البابا ليس وحده صاحب الحق في احتكار الكتاب المقدس، وعليهم واجب يجب تأديته لخدمة الإنسانية وهو الأشراف على الدين في بلادهم، وأعلن وجوب إنقاص عدد الأديرة، وأنه لا ضرورة للحج إلى روما، ونشر رأيه كذلك بإباحة الزواج لرجال الدين، ووجه أعنف النقد للكرادلة على حياة البذخ والرفاهية التي يتمتعون بها.

أجابت الكنيسة على حركة لوثر بأن آصدر الباب ليو العاشر قرار الحرمان من الكنيسة ضد لوثر ( ديسمبر 1520)، وكان رد مارتن لوثر أن أحرق قرار البابا علانية وبصورة رسمية أمام الناس في ساحة وتنبرج. وبذلك انقطعت كل صلة بين لوثر والكنيسة، وتفاقم الأمر حتى أن البابا طلب من الإمبراطور شارل الخامس أن يلقي القبض عليه وقمع حركته وتنفيذ قرار الحرمان الصادر ضده باعتباره مارفا خارجاً على المسيحية.

واستدعى مارتن لوثر للمثول أمام مجلس يمثل الإمراطورية في مدينة فورمس WORMS لمحاكمته (يناير 1521) ولما ناقشه مجمع فورمس في آرائه أصر على كل كلمة فاه بها أو كتبها من قبل، وعندئذ اعتبر خارجاً على القانون وحكم عليه بإهدار دمه وحرمانه من الحقوق المدنية في الإمبراطورية. إلا أن فردريك أمير سكسونيا وآخرين من أمراء شمالي ألمانيا وضعوه تحت حمايتهم. ولجأ لوثر إلى قلعة حصينة تحت حماية فرد يك، وبذلك نجا من العقوبة وأقام هناك بمعزل عن الناس لمدة عام ترجم أثناءه الإنجيل إلى اللغة الألمانية،وكان لهذه الترجمة أثر كبير في إحياء الأدب الألماني، وسهل على العامة فهم معالي الكتاب المقدس بعد أن كان التفسير وقعاً على رجال الدين.

وفي تلك الأثناء، اضطر شارل الخامس إبى مغادرة ألمانيا لمعالجة بعض الشؤون العاجلة من أسبانيا إلا أن ثورة الإصلاح الديني لم تتوقف واكتسحت اللوثرية ـ أي حركة المعارضة للكنيسة الرومانيةـ معظم الطبقات في ألمانيا، ثم انفجرت تلك الثورة في صور شى تبعاً للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تطمع فيه من إصلاح أحوالها، واتخذت العنف وسيلة للوصول والشعب مما  أزعج «لوثر» وجعله يخرج من مخبئه في قلعة وارتبورج  wartbourg ليعن عن أن حركة الإصلاح الديني تبرأ من العنف وإراقة الدماء وسيلة لتحقيق أهدافها، وكان أهم حركات الثورة، حرب الفرسان وحرب الفلاحين.

حرب الفرسان:

كان الفرسان يكونون طبقة تختلف كل الاختلاف عن بقية أفراد الشعب، فقد كان الفارس يمتلك إقطاعية صغيرة من الأرض يتوسطها قصره المشيد على هيئة معقل أو قلعة، ولا يعترفون بالسيادة إلا للإمبراطور نفيه، ولم يكن لأحدهم معقد في الدين الألماني، ومن هنا كان أمراء الولايات من جهة، وضد الإمبراطورية من جهة أخرى، ولكنهم في نهاية العصور الوسطى كانوا قد فقدوا ما كان لهم من هبة وسلطان بعد انحلال العهد الإقطاعي، وقد دفعهم سوء حالهم إلى التعويض عما وصلوا إليه بمحاولة إظهار القوة والبطش، فكان بعضهم يهاجم أراضي الفلاحين لنهب محصولاتها، أو يبتز الأموال من التجار، فلما ظهرت الحركة اللوثرية، رأوا انتهازها كفرصة لاسترداد نفوذهم وثرائهم عن طريق ما نادى به لوثر من تحرير الكنيسة من أملاكها في ألمانيا.

لذلك قاموا بثورة عارمة مستغلين الإصلاح الديني فهاجموا الكنائس والأديرة ودمروا ما كان بها من تماثيل ونفائس وطردوا الرهبان من الأديرة، وكان إبراز الفرسان الثائرين أولرخ قون هتن  Ulrich von Hutten الذي تزعم حركة التأييد القومي لمارتن ضد البابا، باعتبار الباب غريباً عن الوطن يبتز الأموال من آلماني بدون وجه حق، وفي الوقت نفسه اتخذ الفرسان تلك الثورة وسيلة أخرى للتخلص من سلطان أعدائهم من الأمراء.

وقد ساعد هَتِنْ في حركته فاس آخر اسمه فرانز قون سكنجن Sickingen  وهو ال>ي بدأ خرب الفرسان عندما نشب الخلاف بينه وبين أحد رؤساء الأساقفة، وكان من الطبيعي أن يهب الأمراء لمساندة الأساقفة، ولذلك لم يقو سكنجي على الصمود أمام أسلحة الأمراء الحديثة، وهزم ثم قتل تحت أنقاض قلعته توفي بعد فترة وجيزة (1523).

وفشلت حركة الفرسان بعد أن تمكن الأمراء من دك حصونهم فخسروا الحرب وحرموا من امتيازاتهم السياسية التي تبقت لهم، واستعدوا منذ هزيمتهم كعامل هام في الحياة الألمانية.

وقد تأثرت الحركة اللوثرية بهذه الأحداث، وعلى الرغم من أن لوثر نفسه لم يكن موافقاً على استعمال القوة لتأييد حركة الإصلاح الديني، وعلى الرغم من نظر السلطة الألمانية مسئولاً عما جرى كله، كذلك أصبح الأمراء من أعداء الثورة، وكان ذلك إيذانا بحدوث انقسام بين طبقات الشعب الألماني.

ثورة الفلاحين سنة  1523:

كانت طبقة الفلاحين في ألمانية تعاني أشد المعاناة من أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، فهم يرزحون تحت أعباء ثقيلة من الحياة السخرة وفرض الضرائب وما كان الأمراء ورجال الدين والأسياد الإقطاعيون يطالبونهم به من عمل في أرضهم ومطالب أخرى مالية تحرمهم من ثمار كدهم وعرقهم، أضف إلى ذلك أنهم كانوا محرومين من الحقوق التي يتمتع بها الفرد العادي كصيد الأسماك والحيوان.

جاءت الحركة اللوثرية في وقت تفاقمت من روح التذمر والسخط بين الفلاحين ضد السلطات القائمة كلها من زمنية ودينية، ولما كان لوثر ينادي بحرية الإنسان، اعتقد الفلاحون أن الأوان قد آن لاستغلال مبادئه في الثورة على الأوضاع الراهنة والمطالبة بالتخلص من عبودية الأرض وتحديد الخدمات الإقطاعية المفروضة عليهم لأمراء الإقطاع، وتخفيف ضريبة العشور التي تؤدي الكنيسة، ومنحهم الحق في اختيار رجل الدين في كل مجتمع من مجتمعاتهم، وتحديد الضرائب والخدمات التي تؤدي لأمراء الإقطاع، وحق الصيد في الأنهار التي تمر في الأرض التي يزرعونها وفي الغابات المحيطة بهم، وتحديد إيجارات الأراضي الزراعية تحديدا عادلاً. ونادوا بأن يعاملوا بما جاء في الكتاب المقدس الذي لا يفرق بعد سيد ومسود، والعمل على إيجاد مجتمع مسيحي جديد على أساس المساواة المطلقة، وقد تحمست عدة مئات منهم حماسا أدى إلى قيام ثورة عرفت باسم ثورة الفلاحين، وهي سلسلة من الثورات انفجرت في نهاية عام 1524 في معظم الجهات بألمانيا وخاصة في الولايات الجنوبية ثم امتدت نحو المناطق الشرقية.

وانتهز أحد زعماء الإصلاح "توماس منزر Thomas Münzer" -وكان حاكما لإحدى المدن- هياج الفلاحين ضد السلطات القائمة وتصدى لزعامة الثورة، ولكن قياته للثورة لم تكن إجماعية ولا حازمة، وفلت الزمام من يده، فقد عمدت عناصر كثيرة إلى التطرف في مبادئ الثورة حتى طالبت بشيوعية الملكية وتغالوا في أعمال العنف والتقتيل وقابل الأمراء والنبلاء تلك الثورة بمثلها في ارتكاب الوحشية والتعذيب في حق من تصل إليه أيديهم من الثوار، وتكاتف الأمراء وجميع الفرسان مع القوات الأمبراطورية في تحطيم تلك الثورة، فأخمدوها بدون رحمة ولا شفقة، وقتلوا من الفلاحين عشرات الألوف، وقد ألقت السلطات القبض على زعماء الثورة وعذبتهم ثم أعدمتهم، وانتهت ثورة الفلاحين في آخر عام 1525 ولم تجن طبقة الفلاحين منها إلا الدمار، وعادت إلى حباتها الأولى من الذل والهوان.

وقد كان لثورة الفلاحين صداها في حركة الإصلاح الديني، إذ على الرغم من أن لوثر كان يندد بسياسة الملوك والأمراء تجاه رعاياهم، إلا أن رأى أن ارتباط حركة الإصلاح الديني بالثورة والعنف قد يصرف هؤلاء عن مساندة حركة الإصلاح ولا سيما أنه كان يرى في المطالب الاقتصادي والاجتماعية المتغالبة، تطرفا لا يمت إلى حركة الإصلاح الديني بسبب، وأنها حركة هدامة تخريبية يجب القضاء عليها، لأنها تتعارض مع تطلعه إلى ضمان مساعدة الحكومات الألمانية القائمة لحركته الإصلاحية، ولذلك خرج من مخبئه على الناس يدعوهم إلى الطاعة التامة للسلطات الحكومية، ونبذ وسائل الشدة والعنف، بل لقد حرّض الأمراء على عدم التهاون في قمع الثورة.

على أن مساندة مارتن لوثر للأمراء والنبلاء لم يتخفف من حقد هؤلاء عليه لأنهم كانوا يشعرون بالأخطار الناجمة عن استعمال الحركة اللوترية، وأن ثورته الدينية هي التي حركت العصيان وأثارت التفكير من مبادئ الحرية والمساواة، لذلك استعدوا عليه الأمبراطور شارل الخامس من جديد، فاستجاب لهم رآه من تفاقم الحال واحتمال قيام ثورات أخرى تحت تأثير تعاليم لوثر، مما يؤدي إلى حدوث انقسام سياسي في أعقاب الانقسام الديني.

موقف الإمبراطور:

ولم يكن الإمبراطور شارل الخامس مسترشدا بواجبه الديني بقدر تأثره بالموقف السياسي للإمبراطورية في أوربا، حيث كان الصراع قائما بينه وبين فرنسوا الأول ملك فرنسا، كذلك كان من سوء حظ الكاثوليكية أن انتشرت اللوثرية في ألمانيا في الوقت الذي كان الأتراك العثمانين يهددون ممتلكات الإمبراطور النمسا والمجر، فكان الإمبراطور منهمكا في ذلك النضال الخارجي، متكيفا في الداخل بمحاولة تهدئه الأحوال في ألمانيا حتى يستطيع أن يضمن إرسال الإمدادات للمساعدة على وقف تقدم الأتراك، لهذا ظل مدة طويلة لا يستطيع اتخاذ موقف حاسم ضد اللوثرية مما شجع أنصارها وقوّى ساعدهم، كذلك كانت علاقة الإمبراطورية بالبابا على أسوأ حال، وخصوصا عندما دعا البابا كلمنت السابع في مايو 1526 إلى تكوين حلف مقدس ضد الإمبراطور بقصد القضاء على نفوذه في إيطاليا.

المجلس الإمبراطوري في سبير 1526:

وأما المشكلة الدينية التي لم تنته بعد، قرر الإمبراطور أن يعقد المجلس الإمبراطوري في مدينة سبير Speier  في باقاريا في شهر يونيه 1526 لبحث المسألة الدينية وتنفيذ القرار الصادر بحث مارتن لوثر بطرده خارج القانون (ومعنى ذلك إهدار دمه) ومصادرة كتاباته وهو القرار الذي اصدره مجمع ورمز عام 1521.

واجتمع مجلس سبير، حيث صدر قرارا في غير مصلحة الكنيسة الكاثوليكية، نصّ على أن «لكل أمير الحق في أن يسلك السبيل الذي يراه صالحا في موضوع قرار ورمز وهو في ذلك مسؤول أمام الله والإمبراطور». ومعنىذلك أنه أصبح لكل أمير الحق في اختيار المذهب الديني الذي يروق له في ولايته، وأصبح لأتباع مذهب لوثر مركز شرعي معترف به سرعان ما استغلوهن واستولى الأمراء الذين اختارو المذهب اللوثري في مقاطعاتهم على أملاك الكنيسة في بلادهم وطردوا رجال الدين الموالين للبابا رفضوا قبول المذهب الجديد».

وقد ساعد الموقف السياسي في ألمانيا على إصدار هذا القرار، فقد كان البابا كلمنت السابع على رأس حلف كونتن عام 1526 الذي تكوّن لطرد قوات الإمبراطور من إيطاليا، أضف إلى ذلك أن الإمبراطور كان في أشد الحاجة إلى المال يجمعه من رعاياه في كل مكان، ويريد كسب الوقت بأي ثمن ليتفرغ للمعركة الدائرة مع الأتراك العثمانيين الذين كانت قواتهم تجتاح المجر.

ثم تغيّر الموقف السياسي عندما هاجمت قوات الإمبراطور روما ونهبتها واسرت البابا الذي لم ير بدا من مهادنة الإمبراطور وقبول الصلح الذي تعهد فيه الإمبراطور بالعمل على قمع الحركة اللوثرية.

المجلس الإمبراطوري الثاني في سبير 1539:

رأى الإمبراطور شارل الخامس أن يعاود النظر فيما آلت إليه أحوال البلاد بسبب انتشار اللوثرية والانقسام الخطير الذي يهدد الإمبراطورية فدعا على عقد المجلس الإمبراطوري مرة ثانية في مدينة سبير (مارس 1529)، وقد تراجع هذا (الدّيت) الثاني عما أصدره من قرارات واصدر هذه المرة قرارا ينص على نفاذ مفعول قرارات ورمس عام 1521 التي تقضي بإهدار دم لوثر وقمع ثورة اللوثريين وإلغاء الحرية التي منحت للأمراء في مجلس سبير الأول في اختيار المذهب الذي يريدونه في ولاياتهم، واتخذ المجلس قرارا آخر لإبقاء على الكنائس اللوثرية التي أقامها اللوثريين في الولايات التي اختارت ذلك المذهب وسمح لها بممارسة عملها في نطاق العقائد الجديدة، على أن يقام القداس وفق النظام الكاثوليكي.

أزعجت تلك القرارات الأمراء اللوثريين لأن اختيارهم للمذهب الجديد منحهم الفرصة للاستيلاء على أراضي الكنيسة الكاثوليكية في بلادهم، ومعنى تنفيذ قرارات الدّيت الثاني أن يحرموا من الثروة التي هبطت عليهم ويعيدوا الأرض للكنيسة، لذلك أعلنوا أنهم لن يذعنوا لتلك القرارات ولا يتقيدون بها بل يحتجون عليها ومن هنا أطلق اللوثريون على أنفسهم اسم "المحتجون" Protestant، وهو الاسم الذي لازم أصحاب هذا المذهب حتى اليوم.

كان ذلك الاحتجاج القوي تحديا سافرا لسلطة الإمبراطورية، إلا أن الموقف  كان يملي عليه أن يترتب في الأمر ويمنع اشتعال حرب دينية بين المسيحيين في الوقت الذي أصبحت جيوش الأتراك تهدد أوربا مما يدعو إلى توحيد كلمة المسيحيين أمام الخطر الداهم، وكان الأتراك العثمانيون إذ ذاك يحاصرون فينا، ولم يرفع الحصار عنها إلا بعد جهد كبير وتضحيات فادحة في شهر أكتوبر 1529،  من أجل ذلك حاول الإمبراطور أن يفض النزاع بالطرق السلمية ودعا لعقد الملجس الإمبراطوري في مدينة أوجزبرج في يونيه 1530.

مجلس أوجزبرج 1530:

تقرر عقد هذا المجلس الإمبراطوري الذي تميّز بتوجيه الدعوة إلى الأمراء البروتستانت للاجتماع مع أندادهم من الأمراء الكاثوليك في محاولة لفض النزاع والوصول إلى تفاهم يرضي الفريقين. كان ذلك في عام 1530. وهو العام الذي عقد فيه صلح كامبري Cambari والذي أراحه مؤقتا من حروبه ضد ملك فرنسا، لذلك استطاع الحضور بنفسه إلى ألمانيا ورأس المجلس في أوجزبرج، وكان موقف الإمبراطور في هذا المجلس موقف الحيرة والتردد، فقد تمسك كل فريق بآرائه، وكان موقف الأمراء ورجال الدين الكاثوليك متعنتا ومتعصبا، وأخذوا يهيبون بالإمبراطور أن يضرب بيد من حديد على أيدي البروتستنت، إلا أن الإمبراطور لم يكن في وسعه أن يستجيب لهذا الرأي، ولا أن يتعرض لاستقلال الولايات الألمانية، إلا أنه كان متأثرا على أي حال بمن حوله من رجال الدين الكاثوليك وظهر في موقف المعارض للبروتستنت.

وقد طلب إلى ممثلي البروتستنت أن يتقدموا لإمبراطور بآرائهم ومشاكلهم كتابة، فقام بهذه المهمة أحد زعماء البروتستنتينية، وهو فيلب ميلانكتون Melanchton ساعد مارتن لوثر الأيمن (كان لوثر لا يزال تحت وطأة قرار الحرمان، ولذلك لم يستطع حضور هذا المجلس، ولكنه كان يراقب المناقشات من منفاه معتقدا أن لا فائدة ترجى من المجالس الإمبراطورية ولا يمكن الوصول عن طريقها إلى تفاهم، وان المناقشات كلهادخان وأكاذيب، وقد أيدى تخوفه من أن ملائكتن قد يتغالى في الاعتدال بغية الوصول إلى حل، فتضعف بذلك قضية المذهب الجديد).

 وقد وضع ميلانكتن مبادئ العقيدة اللوثرية في صيغة معتدلة غاية الاعتدال، وقد سميت باعتراف أوجستانا Confessio Augustana أو الاعتراف العظيم، وقد بذل الإمبراطوري ما في وسعه لمحاولة التقريب بين الطرفين، ولكن ظهر أن الشقاق بينهما أعمق مما كان يتصور، فقد وضع كبار الزعماء الكاثوليك وثيقة مضادة فندوا فيها آراء البروتستنت، وأعلن الإمبراطور موافقة على ما جاء فيها.

وفي أواخر سبتمبر 1530 انقض المجلس بعد أن أعطى الإمبراطور مهلة قصيرة للبروتستنت ليفكروا في الأمر ويقلعوا عن آرائهم حقنا للدماء، وكان قد يئس من استعطافهم أو إيقاع الشقاق بينهم ولم يبق أمامه إلا أن يسلك سبيل الشدة، ولذلك اصدر قرارا بتخطئة معظم عقائد اللوثرية ودعوة الناس إلى التنحي عن (المذهب المبتدع) وإلا عوقب أنصاره اشد العقاب.

حلف شمالكالد ديسمبر 1530:

تبين للبروتستنت مدى الأخطار التي تحيق بهم فاتحدت آراؤهم وقرروا الاجتماع في مدينة شمالكلد بولاية هس Hesse، وكان حلف شمالكالد أخطر حلف له اهميته في تاريخ القرن السادس عشر، وقد أعلن أعضاء الحلف بيانا على الملأ يوضحون فيه أنهم لن يرضخوا للقوة وسوف يدافعون عن مبادئهم ومصالحهم مهما اقتضى الأمر، وأنهم اتفقوا على الدفاع متضامنين عن حقوقهم ومبادئهم، «وإن تعرّض فريق منهم للعدوان في سبيل كلمة الله ومذهب الكتاب المقدس هبّ الجميع لنصرته بكل ما يملكونه من قوة ومساعدته على الخلاص».

وقد ناقش اجتماع شمالكالد الوسائل العسكرية التي تضمن الدفاع عن مصالح الأعضاء وتقرر تكوين جيش نظامي مجهز بأحدث الأسلحة ويشترك في قيادته أمير سكوسونيا وهي الولاية التي اعتنقت مبادئ لوثر منذ ظهورها، وكذلك حكام هيس وبرنزويك ولونبرج ومدن ستراسبورج وألم وكونستانس  وبزبمن وغيرها في الشمال والجنوب.

والواقع أن هذا الحلف كان بمثابة نواة لنمو البروتستنتية وانتشارها وتدعيمها، فقد اصبح لها تنظيمها السياسي والعسكري، ولها كنيستها وعقيدتها الثابتة وازداد عدد المنضمين إلى ذلك الحلف من المدن والولايات الألمانية، وقويت عزائم البروتستنت فاجتمعوا مرة أخرى في شمالكالد (19 فبراير 1531) لتجديد ما تعاهدوا عليه، ورأوا الاستعانة بملكي فرنسا وانجلترا الحاقدين على الإمبراطور، فالملك فرنسوا الأول كان فوتورا لا ينسى هزيمته في إيطاليا، ومع أنه كان عاجزا عن مديد المساعدة الفعالة للأمراء الألمان البروتستنت، إلا أنه كان يشجعهم على الثبات في وجه الإمبراطور وتحدّي قراراته ضدهم، أما الملك هنري الثامن ملك انجلترا فقد كان حانقا على الإمبراطور لأنه كان السبب في الإيحاء إلى البابا –الذي كان أسيرا لديه- أن يؤخر الحكم بطلاق زوجته ماترين ويعارض هذا الطلاق، وفي الوقت نفسه كان من مصلحة هنري أن تتاح له الفرصة لقطع صلة انجلترا بالكنيسة في روما، إلا أن لم يكن بوسعه إقحام نفسه في الحرب ضد الإمبراطور، ولذلك اكتفى بتشجيع أمراء ألمانيا البروتستنت ولكنها كانت وعودا مبهمة مشفوعة بمبلغ يسير من المال.

المجلس الإمبراطوري في نورنمبرج 1532:

على أن الإمبراطور كان يرى في ذلك الحين أن وسائل الشدة والبطش في جمع الحركة البروتستنتية سوف يؤدي إلى تمزيق وجدة الصف الألماني، ورأى أن مراعاته للبابا قد أصلته عن سبيل الصواب وواقعته فيما لا يفيد السياسة الحكيمة لجمع كلمة الشعب، ولذلك لم يبذل أي مجهود لتنفيذ مراسيمه بالقوة ضد البروتستنت، إذ كان أي إجراء من هذا القبيل يهدد بقيام حروب أهلية خطيرة في الوقت الذي كان الأتراك العثمانيين يدقون أبواب المجر.

لذلك قرر دعوة مجلس الديت في مدينة نورنبرح عام 1532 وكانت مناقشات هذا المجلس ثم قرارته أكثر ميلا إلى التفاهم وبعدا عن روح البطش والتعنت، فقد أصدر قرارات أطلق عليها "سلام نورمبرج" تدعو إلى وقف جميع الشاحنات والحروب الأهلية المدنية داخل الإمبراطورية فإن "عدو المسيحية المشترك يتوقف طرده على تحقيق السلام في الإمبراطورية".

وقد كان صلح نورمبرج عاملا آخر نجم عنه انتشار البروتستنتية إذ انضمت إلى المذهب الجديد مدن أخرى هي أوجزبرج وفرانكفورت وهمبرج وهانوفر، وقبل البروتسنت دعوة الإمبراطور لتوحيد الصف أمام العدو المشترك وأمده أمراءهم بالعون العسكري حتى تم انسحاب الأتراك نهائيا عام 1532

مجلس ترنت 1545:

ومرت الأيام، والإمبراطور مشغول بالحرب مع الأتراك العثمانيين، وبالحروب الإيطالية، وبالخلاف الناشب في ألمانيا بين البروتستانت والكاثوليك، ولكن خطر الحروب الإيطالية انتهى بعقد صلح كرسي عام 1544 وزال خطر الأتراك، وبذلك خفت متاعبه الخارجية ولم يبق سوى العمل على حسم النزاع الديني في ألمانيا، ومعالجة الموقف بالحزم الذي كان ينقصه في الماضي، وعندما عاد إلى ألمانيا وجد أن معظم الإمارات الألمانية قد أعلنت انضمامها إلى المذهب اللوثري الواحدة بعد الأخرى، فقرر أن يقوم بآخر محاولة سلمية بأن دفع البابا الجديد "بول الثالث" إلى دعوة مجلس ديني عام يجمع بين الكاثوليك والبروتستنت في مدينة ترنت Trent في منطقة التيرول عام 1545، ودعى البروتستنت لإرسال مندوبين عنهم، إلا أنهم رفضوا المثول في هذا المجلس، لأنهم يعملون أن أغلبية أعضائه من الإيطاليين والإسبان غلاة الكاثوليكية، ورأوا ألا يقيدوا أنفسهم بقرارات مثل هذا المجلس، معتقدين ان الأمبراطور لم يقصد إلا مخادعتهم حتى يكسب الوقت لتدبير القضاء عليهم.

عندئذ قرر الإمبراطور نهائيا أن يستخدم القوة، وفي هذه الظروف العصبية مات لوثر (17 فبراير 1546) وخسر البروتستنت زعيمهم الرومي الكبير، واستطاع الإمبراطور أن يجذب إلى صفة موريس دوق سكسونيا نصير البرتستنت وبذلك خسرت القوات البروتستنتية قائدا عظيما مدربا، ودخلت الحرب ضد القوات الإمبراطورية التي كانت تضم جنودا من أسبانيا وإيطاليا يقودها دوق ألفا القائد الاسباني الكبير.

وفي موقعه مهلبرج (أبريل 1547) أوقعت القوات الإمبراطورية بالبروتستنت هزيمة حاسمة ووقع معظم قواد الجيش البروتستنتي في الأسر وأصبحت ألمانيا بأسرها في قبضة الإمبراطور، ولكنه بدلا من التمادي في تحطيم المذهب الجديد حول مرة أخرى أن يوفق بين الكاثوليك والبروتستنت، مدفوعا في هذا المسعى بعلاقاته السيئة بالبابا، وكان البابا بول الثالث يبادله الكراهية وعدم الثقة، وعلى الرغم من أن انتصار الأمبراطور في مهلبرج على البروتستنت كان في مصلحة الكنيسة الكاثوليكية في روما إلا أن البابا كان يخضى من أن نشوة الانتصار قد تدفع الإمبراطور إلى تدعيم نفوذه في شبه الجزيرة الإيكالية ومحاولة إخضاع الكنيسة لسيطرة الإمبراطورية، ولذلك شرع البابا في الاتصال بهنري الثاني ملك فرنسا ليكون حليفا له ضد شارل الخامس، كذلك كان الإمبراطوري يقدر مدى تمسك رعايا البروتستنت بمذهبهم، وحرص الأمراء البروتستنت على مكاسبهم واستقلالهم، لذلك قرر دعوة المجلس الإمبراطوري للانعقاد بمدينة أو جزبرج عام 1548.

مجلس أوجزبرج والنظام الموقت:

وقد كلف الإمبراطور بعض علماء اللاهوت بدراسة أوجه الخلاف بين المذهبين تمهيدا لوضع نظام جديد يلتزم به الكاثوليك والبروتستنت، وقد تم التوصل إلى نظام أطلق عليه اسم النظام المؤقت ، وكان النظام المقترح كاثوليكيا في روحه ولكنه انطوى على شيء من التسامح مع البروتستنت يكفل رضاءهم كإباحة زواج القسس (رغم النص على عدم استحسان)، وطقوس العبادة البروتستنتية وغيرها، وقد عرض المشروع على المجلس فوافق عليه واصدر نصوصه.

ولم ينجح شارل الخامس في فرض النظام المؤقت، إذ لم يرق لأي من الطرفين، لأن البروتستنت لم يجدوا فيه الكفاية لتحقيق رغباتهم، أما الكاثوليك فقد رفضوا أن يروا ديانتهم تعبث بها السلطة الزمنية بالتدخل في تفسير المسائل الدينية.

وعاد الصراع يحتدم من جديد بين الولايات الكاثوليكية والولايات البروتستانية التي تلقت المساعدات من فرنسا وحاول الإمبراطور أن يفرض نظامه بالقوة واستخدم في ذلك القوات الأسبانية ضد البروتستنت، وكان من أثر ذلك خرج عليه موريس ناخب سكسونيا الذي انضم إليه من قبل وعاد إلى صفوف البروتستنت الذين اكتسبوا بعودته قوة جديدة.

وسارت الأحداث في غير مصلحة الإمبراطور، فقد استطاع موريس بمساعدة بعض القوات الفرنسية واشتراك قوات بقية الأمراء الألمان أن يهزموا الإمبراطور الذي لم يجد بدا من مغادرة ألمانيا ورأى أخيرا أن ينزوي في أحد الأديرة بأسبانيا ويعهد إلى أخيه فرديناند أن يعالج المشكلة ويعمل على وضع تسوية نهائية، وفي فبراير 1555 دعي المجلس الإمبراطورية للاجتماع في أوجز برج تحت رياسة فرديناند لتقرير الصلح مع البروتستنت.

صلح اوجزبرج 1555:

وقد تصل هذا المجلس إلى صلح ديني كان أهم ما جاء فيه المبدأين التاليين أولا، تقرير المبدأ الذي نص عليه مجلس سبير الأول (1526) من إعطاء الحرية لكل أمير أن يختار المذهب الذي يروق له في إمارته، وعلى الرعايا الذين يريدون البقاء، حيث هم أن يدينوا بالمذهب المختار، وإلا فلهم الحق في مغادرة الولاية التي يعيشون فيها إلى الولايات التي تدين بالمذهب الذي اختاروه لأنفسهم ولكل شخص منهم الحق في أن يأخذ معه أمواله دون التعرض له بأي أذى.

ثانيا، تبقى أملاك الكنيسة الكاثوليكية التي أخذها البروتستنت قبل عام 1552 في أيدي من استولى عليها من رجال الدين أو غيرهم، وأما الأملاك التي فقدتها بعد عام 1552 فيجب ردها إلى الكنيسة الكاثوليكية في روما.

والواقع أن صلح أوجزبرج كان من الناحية الدينية انتصارا كبيرا للبروتستنتية ولكنه أدى إلى تجزئة ألمانيا من الوجهة السياسية والدستورية وبعثرتها إلى دويلات كثيرة منفصلة بعضها عن بعض، وبوجه عام سادت اللوثرية في الشمال، وفي دوقية قورتمبرج في الجنوب، بينما سادت الكوثوليكية في الجنوب –باستثناء قورتمبرج وبعض مدن قليلة-وفي حوض الراين وفي ممتلكات الإمبراطورية التي امتدت سنة 1555 إلى شمال الأراضي المنخفضة (هولندة).

ولم تقتصر حركة الإصلاح الديني على ألمانيا، بل تسربت منها إلى البلاد الاسكندنافية في الدنمارك، حيث تأسست بها أول كنيسة قومية عام 1560 وترجم الأنجيل إلى اللغة الدنمركية ف النرويج التي كانت في ذلك الحين تابعة للدنمرك، وفي السويد دخلت البروتستنتية في عهد جوستاف فاسا ملك السويد (1523-1560) وتأسست هناك الكنيسة السويدية بعيدا عن كاثوليكية روما، كذلك تسرب المذهب البروتسنتني إلى المقاطعات السويسرية، ثم قامت حركة الإصلاح الديني في كل من انجلترا وفرنسا لأسباب سياسية واجتماعية ودينية كما سيرد في حينه.

أما ألمانيا فقد استراحت فترة من الزمن من الحروب الأهلية رغم أن كلا من الفريقين، الكاثوليكي والبروتستنتي، لم يعتبر صلح اوجزبرج نهاية المطاف أو الحل النهائي للمشكلة، ولكنه على أي حال وضع حدا للنزاع المسلح ثلاثا وستين سنة، عادت بعدها الحروب الدينية في صورة دولية اشتركت فيها كل من ألمانيا والدنمرك وفرنسا والسويد، وهي الحروب المشهورة في التاريخ باسم (حرب الثلاثين عاما 1618-1648).

زونجلي وكلفن:

كانت حركة الإصلاح الديني من واقعها من وحي اليقظة التي سرت في ضمير الأفراد في عصر النهضة، ولكنها اختلفت في مظاهرها ودوافعها ومراميها تبعا للبلاد التي ظهرت فيها، وشخصيات الرجال الذين قادوها وتزعموها، ومن هؤلاء الرجال المصلحين أوليرخ زونغلي Ulrich Zuingli 1484-1531 جون كلفن John Calvin  (1509-1564) وكان للأخير أثره الفعال في توجيه حركة الإصلاح.

وقد اتخذ كلا الزعيمين سويسرا مركزا للدعوة الإصلاحية التي نادى كل منهما بها ولا عجب من اختيار سويسرا بالذات لتكون مصدر الإشعاع الإصلاحي الجديد الذي يرتكز قبل كل شيء على حرية الفكر، ولكن نفهم السبب في ذلك لا بد لنا من دراسة التطور التاريخي للاتحاد السويسري.

الاتحاد السويسري:

لم تكن سويسرا وحدة منفصلة عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة بل كانت مع باقي الأراضي الألمانية جزءا من تلك الإمبراطورية، ولكن سيادة الإمبراطور عليها كانت اسمية، وقد ولى الحكم في الإمبراطورية خلال القرن الثالث عشر حكام غر ألقاء نتج عن سوء حكمهم انتشار الفوضى والاضطراب، وكام من بين هؤلاء الحكام أمراء من أسرة هبسبرج استغلوا تلك الفوضى في بسط نفوذهم والتوسع على حساب جيرانهم، وكان موطن هؤلاء في الولاية الكبرى سوابيا Suvalia وهي الولاية التي كانت تضم داخلها سويسرة الحالية، وظل الحكم الغاشم قائما حتى قبيل نهاية القرن الثالث عشر عندما اتفقت ثلاث مقاطعات تقع على شواطئ بحيرة لوسرن على إقامة اتحاد فيما بينها بقصد الدفاع عن مصالحها ضد الطغاة من آل هبسبرج، وكان من الاتحاد الصغير بزرة تنمو حولها سويسرة الحالية.

وكان على الاتحاد أن يكافح ويناضل ضد آل هبسبرج من اجل البقاء والنمو، ولم تأل الإمبراطورية جهدا في سبيل استعادة السيطرة على تلك البقاع، وقد استمر الصراع مدى قرنين من الزمان، وترتب على هذا الصراع نتيجتان: أولهما ازدياد التماسك والترابط بين ولايات ذلك الاتحاد، وثانيهما أن جهاد الشعب في سبيل الحرية، والبطولات التي ظهرت أثناء الصراع المستميت، أثارت مشاعر الشعب السويسري في الجهات المجاورة وجعلتهم ينضمون بالتدريج إلى حركة الجهاد.

وقد خاض المجاهدون معركة مورجارتن Morganten في عام 1315، وانتصرت قواتهم على ليوبولد (من الهبسبرج) وقواته الإمبراطورية، وبذلك أمنوا استقلالهم، وكان هذا النصر الوطني حافزا لبقية المقاطعات السويسرية على إعلان الانضمام إلى الاتحاد، فانضمت لوسرن وزيوريخ وبرن وغيرها وتعزز ذلك الاتحاد بالاشتراك الجميع في موقعه سمباخ Sempack عام 1386 ضد القوات الإمبراطورية وحققوا انتصارا رائعا، وفي النصف الأول من القرن الخامس عشر انضمت أقاليم أخرى واتسع الاتحاد حتى شمل سويسرا الحالية.

وفي عام 1499، تعرض استقلال الاتحاد السويسري أمام حكم الإمبراطور مكسمليان الأول لخطر جديد، وذلك عندما حاول القيام بإصلاح الدستور، فأسس مجلس الديت الذي كان مهمته صيانة الأمن والنظام وجمع الضرائب، ولما كان استقلال الاتحاد السويسري لا تعترف به الإمبراطورية، فقد كان المفروض أن يطبق النظام الدستوري الجديد على سويسرا كما طبق على ألمانيا، إلا أن السويسريين الذين يعتزون باستقلالهم الذي انتزعوه بعد كفاح مرير وتضحيات كبيرة، عارضوا أية محاولة للمساس بحرياتهم أو انتقاص استقلالهم، وأخيرا نشبت الحرب بين الإمبراطورا مكسمليان والاتحاد السويسري، واستطاع الاتحاد أن يهزم قوات الإمبراطور هزائم منكرة في وقائع كثيرة حتى اضطر مكسمليان إلى توقيع صلح (بال Bale) وبمقتضى هذا الصلح تم للاتحاد السويسري التخلص من التعبئة الفعلية للإمبراطورية ولم يعد الشعب السويسري خاضعا للتشريع الإمبراطوري، إلا أنها ظلت تبعية اسمية إلى أن زالت عنها نهائيا بمقتضى معاهدة وستفاليا عام 1648 واصطبحت دولة تتمتع بالاستقلال التام.

وفي نطاق الاتحاد السويسري ظهرت دعوة كل من زونجلي وكلقن ضد الكنيسة الكاثوليكية في روما.

زونجلي:

كان أولريخ زونجلي Ubrich Zuingli (1484-1531) من رجال الدين السويسريين، بدأ دعوته في مدينة زيوريخ بعد أن اكتملت ثقافته الدينية عن طريق قراءاته في الدراسات الإغريقية والرومانية القديمة ودراسة أفكار المصلحين المعاصرين أمثال ارزمس، وقد بدأ يسمع الناس أفكاره عندما كان واعظا في كنيسة زيوريخ الكبرى، فتأثر به جمهور كبير من السويسريين، وانقسمت مقاطعات الاتحاد السويسري نتيجة لبث أفكاره وقيادة حركة الإصلاح الديني –إلى بروتستنت وكاثوليك، فقد قاد الحركة البروتستنتية التي كان لها طابع خاص يختلف عن الحركة اللوثرية في ألمانيا، فهي في الوقت الذي كانت تعارض فيه مساوئ الكنيسة في روما، كان لها مهمة أخرى وهي العناية بالإصلاح السياسي والاجتماعي والتنديد بما يقترفه الحكام من مظالم تجاه الطبقات الفقيرة من الشعب، والقضاء على ظاهرة نظام الجنود المرتزقة السويسريين الذين كانوا يتخذون الارتزاق من الحرب في صفوف الجيوش الأجنبية في فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا مهنة لهم.

وقد عارض زونجلي بيع صكوك الغفران عندما وفد على زيوريخ أحد الرهبان  المكلفين من قبل البابا لبيع تلك الصكوك في سويسرة عام 1519، وقد كان يبدو في أول الأمر منضما إلى حركة مارتن لوثر، ولكن سرعان ما تبيّن الخلاف بين أرائهما في بعض المسائل الدينية، فاختلف مع لوثر في مسألة القربان، والنظرة إلى الكنيسة إذ اعتبرها زونجلي مؤسسة ديمقراطية تتألف من جميع المسيحيين الذين يشتركون بواسطة هيئة معينة ينتخبونها منهم في الفصل في المسائل المتعلقة بالشؤون الكنيسة والتعيين في الوظائف الدينية، بينما اعتبر لوثر أمير الولاية أو حاكم البلاد رئيسا أعلى للكنيسة والمهيمن على شؤونها.

ومنذ عام 1528، تجلى الانقسام بين أتباعه البروتستنت، والكاثوليك، وكانت الحرب مرتين بين الفريقين، واشترك فيها زونجلي بنفسه، وانهزم الجيش البروتستني عام 1531، ولقي زونجلي حتفه في موقعة كايل Cappel وأحرق الكاثوليك جثته، وأخيرا تم عقد الصلح بين الفريقين عام 1532 حيث تقرر أن يكون لكل مقاطعة ومدينة الحق في الاحتفاظ بعقيدتها وتقرير مسائلها الدينية، واتباع المذهب الديني الذي تختاره حسب إرادتها.

جون كلقن:

ولد جون كلفن John Calvin في عام 1509 في بلدة نويون Nayon  بالقرب من باريس، والتحق بجامعة باريس ليدرس علم اللاهوت، وعندما كان في الرابعة والعشرين من عمره تفتحت بصيرته على معان جديدة في الدين المسيحي، فدرس آراء المصلحين الذين كان مارتن لوثر على رأسهم، وهيأه استعداده لقيادة حركة أصلاح جديدة، واعتزل وظيفته الدينية (مايو1534) وغادر فرنسا بسبب اضطهاد الملك فرنسوا الأول للبروتسنت، وأخذ يتنقل بين عدة مدن إلى أن استقر به المقام في سويسرا عام 1536، وهناك أصدر كتابه المشهور بعنوان "تنظيمات الدين المسيحي" ، وهو خلاصة التعاليم االبروتستنتية.

وقد اتفقت عقيدة كلقن مع اللوثرية من حيث الاعتماد على الكتاب المقدس وحده في جميع المسائل الدينية وأن المسيح هو وحده الذي يشفع للعباد عند الله، وأن التبرير يكون بالإيمان وليس بالأعمال. إلا أن الكلفنية اختلفت عن اللوثرية في مسألة الغفران، إذ كان كلفن يرى أن الغفران من الأمور القدرية التي لا تربط بالأعمال، فالخلاص منحة خاصة يقدمها الله لمن يشاء بصرف النظر عن عيوبهم أو نقائصهم أو فضائلهم، فالقصاص أو غفران الذنوب من المسائل المقدرة، فقد آمن كلقن بفكرة القضاء والقدر، اكثر مما اعتقد بها لوثر ويسمى هذا المبدأ القدرية.

كذلك اختلفت الكلفنية عن اللوثرية في موقف كل منهما من المجتمع والدولة، فالكلقنيون رفضوا الاعتراف بخضوع الكنيسة للدولة أو بحق أية حكومة أو ملك أو هيئة مدينة في سن تشريعات خاصة بالدين، بل على العكس من ذلك، فقد كان الكلفنيون يتطلعون إلى مجتمع على شاكلة المجتمع الديني يتصف أهله بحسن الخلق وصفات القديسين وتكون واجبات الملوك فيه خدمة الدين والعمل طبقا لما أنزله الله في الكتاب المقدس، أي (تنصير المجتمع بأكمله). وقد أقام كقن في مدينة جنيف بسويسرا نمو>جا لمجتمع المسيحي، حيث تأسست هيئة من رجال الدين لحكم الكنيسة، ومجتمعا كنسيا من القسس وكبار المواطنين الصالحين لحكم المدنية، وقد كان الحكم صارما يحاسب.



[1] - كان إرزم حلقة اتصال بين حركة النهضة وحركة الإصلاح الديني، وقد ولد في روتردام بهولندة ودرس بها اللاهوت ثم انتقل إلى جامعة باريس حيث درس اللغة اللاتينية وأجادها ثم أخذ ينتقل من جامعة إلى أخرى حيث اختلط بكبار العلماء والأساتذة، وفي سنة 1498 زارا انجلترا، وقابل عددا من الباحثين في اكسفورد من درسوا اليونانية، فتاقت نفسه لدراستها حتى أصبح أشهر علماء العصر في الآداب والعلوم الكلاسيكية.

 قائـمة المراجع المعتمدة

1-                             موريس كروزيه، تاريخ الحضارات العام،ط2، منشورات عويدات، بيروت، 1987.

2-         جان بيرنجيه وآخرون، أوروبا منذ بداية القرن الرابع وحتى نهاية الثامن عشر، ط1، منشورات عويدات، بيروت، 1995.

3-         خليل علي مراد وآخرون، دراسات في التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل،1988.

4-         عبد الحميد البطريق وعبد العزيز نوار، التاريخ الأوروبي الحديث من عصر النهضة إلى أواخر القرن الثامن عشر، دار الفكر العربي، القاهرة،1982.

5-                             عبد الحميد البطريق، التيارات السياسية المعاصرة1815-1960،بيروت،1974.

6-         عبد العظيم رمضان، تاريخ أوروبا والعالم الحديث من ظهور البرجوازية الأوروبية إلى الحرب الباردة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1997.

7-         جلال يحيى، التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر حتى الحرب العالمية الأولى، الإسكندرية،1983.

8-                             هـ.أ.ل .فشر، تاريخ أوروبا في العصر الحديث(1789-1950)،ط7، القاهرة،1976.

 

   اقرأ ايضا:

التوسع الأوروبي وحركة الكشوف الجغرافية

حركة الاصلاح الديني

النهضة الأوروبية

انتعاش الكنيسة الكاثوليكية حركة الإصلاح المضادة

حرب الثلاثين عاما(1618-1648)

إنجلترا في القرن السادس عشر (عصر أسرة تيودور) 1485-1603

إسبانيا وثورة الأراضي المنخفضة

الثورة الفرنسية

 

 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة