U3F1ZWV6ZTIwMTU5Nzc5NjQ2Nzg5X0ZyZWUxMjcxODUzMjIzNDU3Nw==

النهضة الأوربية

 

  النهضة الأوربية



  النهضة الأوربية

تمهيد
حركة أحياء العلوم
النهضة الأدبية
النهضة الفنية
ليونارد دافنشي (1452-1519(
مشيل انجلو (1464-1575(
رافاييل (1483-1520(
النهضة العلمية
ماكيافيلي (1479-1527Machiavelli
قائـمة المراجع المعتمدة

 

تمهيد:

ان التطور الإنساني يسير في تيارات فكرية تتغير معها نظرة الإنسان إلى الحياة وإدراكها لمفاهيمها وتصرفه بإزائها، ومن العسير أن نحدد تاريخا محدودا لظهور هذه التغيرات الهامة في مجرى التاريخ، أو الانتقال  من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، فلكل عصر جذور تمتد في أعماق العصر الذي سبقه، ولا بد من وجود فترة انتقال طويلة تتفاعل فيها المثل والمفاهيم القديمة والجديدة معا حتى تستقر في أذهان الناس إرادة التغيير، ويبدأ بالتدريج عصر يختلف عما سبقه في كل نواحي الحياة. وقد يظهر هذا التطور في أمة قبل ظهوره في غيره من الأمم، وتسبق غيرها نحو التقدم والحياة الأفضل.

وقد حدث ذلك في فترة الانتقال في أوربا من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وهي الفترة التي اصطلح المؤرخون على تسميتها باسم عصر النهضة بمعنى البعث الجديد أو بالمعنى الحرفي (الولادة الجديدة)، وقد ظهرت حركة النهضة في بدايتها في إيطاليا، وكان ذلك قبل منتصف القرن الرابع عشر، بينما لا نجد لها أثرا في غيرها إلا من ذلك بزمن ليس بالقصير، فانجلترا مثلا لم تظهر بها آثار النهضة إلا في الربع الأخير من القرن الخامس عشر، ونظرا لانتقال النهضة من إيطاليا إلى غيرها من الدول الأوربية في بطء شديد فقد طال عصر النهضة من أوائل القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر، بل إن أثرها لم يظهر في بعض الدول الأوربية إلا في أوائل القرن السابع عشر. وقد اتخذت النهضة أشكالا ومظاهر مختلفة باختلاف طبيعة البلاد التي ظهرت فيها، فبينما ظهرت بمظهر الإصلاح الديني في بعض الدول الأوربية كألمانيا وغيرها، نجدها تتخذ شكلا فنيا في إيطاليا. وقد ظهرت بوادر النهضة بظهور فكرة إحياء التراث القديم أو كما  سماها المؤرخون حركة إحياء العلوم.

حركة أحياء العلوم:

ظهرت تلك الحركة في القرنين الأخيرين من فترة الانتقال أي من عام 1300 إلى عام 1500، حيث أخذ المثقفون في المدن يهتمون بالتنقيب عن الآثار والمخلفات الأدبية اليونانية والرومانية القديمة، ويحاولون دراستها والاستفادة منها، ولكن حركة إحياء العلوم لم تكن هي النهضة ذاتها بل هي مظهر من مظاهرها وبداية طيبة لها.

وقد عرف المشتغلون بهذه الدراسات باسم الإنسانيين لأنهم كانوا يهتمون بدراسة الإنسان نفسه وهذا يعتبر شيئا جديدا في التاريخ البشري، فقد تناست العصور الوسطى إنسانية الإنسان، واهتمت فقط بصفاء روحه وقربه من الله ومن هنا تفشت أفكار التقشف والصوم وإذلال الجسد، وتجلّى ذلك بأجلى معانيه في ظهور الرهبنة، ولم يجد الفن له منطلقا في تلك العصور لأن النظرة كانت للروح وليست للجسد، ولم يكن هناك داع لإظهار مفاتن الجسم أو الاهتمام بالإنسان في الأدب أو الفنون الجميلة كالرسم والنحت.

ولم يكن من الضروري أن تكون جماعة الإنسانيين من طبقة الجامعيين أو رجال الدين، بل كانت أغلبيتهم الساحقة من عامة الشعب الذين اعتقدوا أن كتاب الإغريق والرومان ومفكريهم وفلاسفتهم لم يكونوا رجال دين، ولا من الخاصة، بل ينتمون إلى عامة الشعب.

ولم يكتف الإنسانيون في إيطاليا بالدراسة العميقة للإنتاج الفكري القديم بل بدأوا يحاولون محاكاة أولئك يحاولون محاكاة أولئك الكتاب القدامى في طريقة وأسلوب الكتابة، وترفعوا عن الكتابة باللغة الإيطالية، إذ لم تكن اللغات القومية في نظر الإنسانيين صالحة للتعبير عن الأفكار الدقيقة أو العميقة، وقد سار على هذا النهج الكتاب الأولون لعصر النهضة أمثال دانتي وبوكاشيو.

وقد ظهرت حركة الإنسانيين أول ما ظهرت في إيطاليا، ومنها انتشرت في مدن أوربا، وخاصة في المدن الفرنسية والألمانية والهولندية، وكان يغلب على الإنسانيين –وخاصة في إيطاليا- الاعتداد بالنفس، والثقة في الإنسان وعظمته وقدرته على التغيير وتحقيق مثله العليا، والرجل الإنساني في نظرهم يجب أن يكون فنانا، فصيحا، فيلسوفا، أخلاقيا، سياسيا، محبا للإطلاع، باحثا عن الشهرة بالإبداع في أدبه أو فنه. وكانوا يعبرون عن أفكارهم بلغة لاتينية أدبية، موجهين اهتماما خاصا بجمال الأسلوب وانتفاء الألفاظ.وقد اعتمدت حركة إحياء العلوم على دراسة المخطوطات الإغريقية واللاتينية التي بحثوا عنها في الكنائس والأديرة في شبه الجزيرة الإيطالية وفي الولايات الألمانية وغيرهما، واهتم حكام الولايات الإيطالية بإيفاد باحثين ينقبون عنها ويشترونها، بل وتنافسوا في سبيل الحصول على أكبر قدر ممكن من هذه المخطوطات.

ويعتبر بترارك أول زعيم لتلك الحركة فقد كرّس حياته في إيطاليا لدراسة الأدب. وقد ولد في فلورنسه وأمضى حياته الدراسية الأولى في توسكانيا، وقد أرسله والده فيما بعد إلى مونتيلين لدراسة القانون ولكنه لم يستسغ تلك الدراسة وتحولت اهتماماته إلى دراسة الآداب القديمة. وشاعت عنه أفكار جديدة وجريئة ظهرت في كتاباته، حيث أوضح فيها اعتقاده بأن الإنسان يجب أن يهتم أولا بحياته على وجه الأرض قبل أن يوجه اهتمامه إلى أشياء تختص بالحياة الآخرة. وانتقد الكنيسة بقوة وصراحة، وتمنى أن يبدأ الشعب الإيطالي بقيادة العالم نحو فلسفة جديدة، ولكن غاب عنه في حياته أن الشعب الإيطالي في ذلك الحين نهبا للانقسام والتنافس وأنه لا يستطيع آنئذ أن يوجه جهوده لتحقيق آرائه الجديدة.

ومهما يكن من شيء، فقد تأثرت النهضة الأدبية في إيطاليا بآرائه وكتاباته. وكانت قصائده موضع اهتمام الأدباء الإيطاليين، يشرحونها ويحللونها ويحاولون مكاحاتها.

النهضة الأدبية:

ازدهرت الآداب منذ بداية عصر النهضة، وكانت ترتكز على تقليد القدامى في كتابة القصائد الغنائية ورسائل الحب وتدبيج الملاحم والمآسي والمراثي والهجاء والاهتمام بجمال الأسلوب وانتقاء الألفاظ، ومع ما أدخله كتاب النهضة من تعابير مأخوذة عن اللاتينية والإغريقية إلا أنهم كانوا إلى جانب ذلك يبتكرون ويخلعون على إنتاجهم مسحة جديدة تميزت بها النهضة الأدبية، ولم يكن الأدباء الأقدمون بالنسبة لهم إلا نماذج للتعبير عن العواطف الشخصية، ولكنها كانت عواطف أديب القرن السادس عشر.

وتميزت هذه الآداب بأنها كتبت لتدخل السرور والإعجاب والتسلية عن القارئ، ولم تهتم بتعليمه أو وعظه، ولاقي المسرح اهتماما كبيرا من أدباء النهضة، حيث أخذت الملهاة والمأساة تقومان مقام المسرحيات الدينية التي كانت من سمات الأدب في العصور الوسطى، فكانت أكثر واقعية وأقوى التقاء بالعواطف الحقيقية للإنسان.

وهكذا أصبحت الآداب قومية يعبر بها الأديب ع شخصيته وشخصية شعبه، وقد بزّ الأدباء الإيطاليون غيرهم من أدباء الشعوب الأخرى وتفوقوا عليهم في التعبير عن عاطفة الفن والبحث عن الجمال.

أما في فرنسا فقد كانت عناية الأدباء موجهة نحو الإبداع في النثر وتجلي ذلك في القصص، والمذكرات والتحليل الخلقي والنفسي، وفي انجلترا ظهر المسرح المتنوع المليء بالمفاجآت والمغامرات، وتحليل الإنسان في خلقه وطباعه. وفي إسبانيا اهتم الأدباء بعواطف الفروسية وأبرزوا المثل العليا التي يتحلى بها الفارس.

النهضة الفنية:

تجلت روح النهضة بأحلى مظاهرها ومعانيها في الفنون الجميلة، وكانت إيطاليا مهد تلك النهضة التي بدأت فيها مبكرة منذ القرن الخامس عشر، ثم تطورت عندما بدأ الاهتمام ببعث الفن الكلاسيكي القديم، وذلك في الثلث الأول من القرن السادس عشرن حيث كشف عدد من الفنانين النقاب عن جمال الآثار القديمة وأخذوا في محاكاتها في الروح والتعبير، ولكنهم في الوقت نفسه تميزوا بالخلق والإبداع، يريدون أن يعبروا عن عواطفهم الشخصية محاولين أن يمثل إنتاجهم الفني شخصيتهم المستقلة وروح العصر الذي يعيشون فيه، وكان الموضوع الأساسي في الفن هو الإنسان نفسه، والاهتمام بإبراز قوته وسيطرته ومتعه، فصورا الإنسان جميلا والفتيات عاريات، ولم يعد الفن عملية نسخ آلي لقالب معيّن تفرضه الكنيسة، وإنما أصبح تعبيرا حرا عن عقلية الفنان وعبقريته.

وقد لعبت المدن الإيطالية دورا هاما في سبيل تقدم الفنون لأنها كانت مراكز للحياة الفنية، يتنافس حكامها على الظهور بمظهر راعي الفنون ومالك أكبر وأفخر مجموعة من النفائس الفنية، وكانت روما بطبيعتها على رأس المدن الإيطالية التي أعلت الفن ورعت الفنانين، فلها من تاريخها وآثارها ومجدها القديم ما جعل فنان النهضة ينهل من وحي الماضي وفكر الحاضر الحر لكي يقتبس ويبتكر. وساعد كثير من البابوات على ازدهار النهضة الفنية في روما وتشجيع كبار الفنانين على اتخاذ روما محرابا لفنونهم، فشيدت كنيسة القديس بطرس حيث تعاقب على تزيينها وزخرفتها كبار المعماريين والرسامين والنحاتين أمثال المعماري برامانته، والرسام رافائيل وأخيرا مشيل أنجلو، ومن أشهر الباباوات الذين استدعوا أولئك الفنانين البابا حول الثاني 1503-1513، والبابا ليو العاشر (1513-1521) من أسرة مديتشي وفي عهديهما تم تزيين قصر القاتيكان الذي تجلى فيه أبدع ما لدى رجال الفن من نبوع وعبقرية وخيال. والواقع أن بعض بابوات عصر النهضة كانوا يطمحون إلى تأسيس دولة علمانية وكان الشعور السائد حينئذ في شمال أوربا أن هؤلاء البابوات كانوا أشبه بالأمراء الإيطاليين الذين يعملون على توطيد سلطتهم الزمنية أكثر مما هو مفروض فيهم من العناية بالحياة الروحية والسهر على مصالح العالم المسيحي.

ولم يقتصر رعاية الفنون على روما بل كانت ميلان مهد آخر لنشاط النهضة الفنية وقد رعاها "لودوفيك لومور" وابنه "فرانسوا سفورزا"، كذلك حملت فلورنسه لواء النهضة وخاصة في عهد لورنز دي مديتشي الذي كان قصره بمثابة أكاديمية فنية، حيث كان يؤمه عدد من الفنانين مهدوا الطريق أمام نوابغ الفن في القرن السادس عشر أمثال ليوناردو دافنشي ومشيل انجيلو ورافائيل. ومع أو هؤلاء الفنانين مهدوا الطريق أمام نوابع  الفن في القرن السادس عشر إلا أنهم عالجوا رسم لوحاتهم بروح إنسانية دنيوية، فجعلوا الرغبة في الكمال الفني هي الأساس، ثم يأتي التعبير الديني على هامشها، هذا فضلا عما تميزا به إنتاجهم من إبراز جمال الوجه وتناسق الجسم، والعناية بجمال الطبيعة، والقدرة الفائقة في توزيع الألوان والظلال والأصباغ. والاهتمام بتوضيح العواطف الإنسانية المختلفة بدلا من التزمت في إضفاء الجلال والتدين والمهابة على صور الأشخاص.

ونستطيع دراسة تطور فن التصوير في إيطاليا من خلال دراستنا لحياة وإنتاج بعض فناني ذلك العصر.

ليونارد دافنشي (1452-1519)

ولد ليوناردو دافنشي في بلدة فنشي الجبلية على مقربة من فلونسه، وقد نشأ مغرما بدراسة الرسم والنحت والمعمار والرياضة والهندسة، وفي القوت نفسه كان يهوى الأدب والموسيقى والشعر والجيولوجيا وعلم وظائف الأعضاء وعلم التشريح. وقد درس الفن في فلورنسه في مرسم أحد كبار الرسام ين والنحاتين. ثم التحق بوظيفة لدى لودفيكو سفورزا في ميلان (عام 1482)، وقضى في ميلان حوالي عشرين عاما رسم خلالها صورتيه الشهيرتين عذراء جروتو والعشاء الأخير وقد دل بصورة العشاء الأخير على أنه متعمق في إدراكه للنفس البشرية وانفعالاتها وردود أفعالها، وذلك في المنظر الرائع الذي جمع بين المسيح وجواريه الأثني عشر، وهو يعلن لهم أن أحدهم سوف يخونهن وقد ظهر وجه المسيح بصفاته الروحاني وهدوئه الكبير بينما الانزعاج على وجه أتباعه.

وقد اتصل ليوناردو دراساته وأعماله في ميلان فقد كان مهندسا إلى جانب مواهبه الفنية، وعندما اضطر لودوفيكو سفورزا إلى مغادرة ميلان في طريقه إلى المنفى أيام الغزو الفرنسي لها عام 1499. عاد ليوناردو إلى فرورنسة، وهناك بدأ رسم رائعته الشهيرة "موناليزا" أو "جيو كوندا" (1506) وهي صورة لسيدة شابة جميلة، وهي زوجة لضابط يكبرها سنا اسمه "فرانشسكو دل جيو كوندا"، وكان حاكم فلورنسة معجبا بجمالها الهادئ الحزين فأمر ليورنادو برسمها. فوضع الأخير كل طاقاته ونبوغه ومواهبه في إبداع تلك الصورة بما كانت تحمله موناليزا من مشاعر عميقة وعواطف دفينة. وقد استغرقت الصورة منه أربع سنوات حتى خرجت رائعة خالدة لا تزال موضع الإعجاب حتى اليوم([1]).

وفي أيامه الأخيرة، كرّس ليوناردو معظم وقته للدراسات العلمية، وقد أمضى السنين الأخيرة من حياته في بلاط فرانسوا الأول حتى قضى عام 1519.

مشيل انجلو (1464-1575):

كان مشيل انجلو من عمالقة الفن في عصر النهضة، ولد في كابريسه بلاقرب من فرونسة، وقد كر وقته عندما كان شابا في فرونسة لفن النحت، حيث ذاع صيته وخصوصا عندما قام بنحت المجموعة الرخامية الشهيرة التي تمثل العذراء والطفل، ورغم أنه كان يفضل فن النحت على أي فن آخر إلا أنه كان متفوقا في التصوير وهندسة البناء ومغرما بكتابة الشعر.

وقد دعاه البابا يوليوس الثاني إلى نحت ورسم سقف كنيسة سيستين في الفاتيكان، وقد أمضى ميشل انجلو أربعة أعوام ونصف يقوم بتلك المهمة التي كرّس كل وقته وبذلك كل جهده الفني، وقد كان يعمل مستلقيا على ظهره فوق منصة عالية حتى أتم ذلك الإنتاج الرائع الذي يعتبر أعجوبة من أعاجيب الفن في التاريخ.

وله آثار أخرى في النحت تنطق بعبقريته كتمثال العذراء مع المسيح، المقام في كنيسة القديس بطرس في روما وتمثال داوود العظيم المنحوت من الرخام وقد نصب هذا التمثال أمام قصر الإمارة في فلورنسة.

رافاييل (1483-1520):

ويعتبر رافاييل ثالث الثلاثة الكبار عمالقة الفن، درس التصوير في فلورنسة واشتهر اسمه رغم صغر سنه، وقد تلقى أول دروسه على والدة جيوفاني سانتي، ثم تلقى قواعد الفن على يد "بيروجينو" وهو فنان من بيروجيا Perugia وأخيرا ذهب إلى روما، حيث سحرته أعمال ليوناردو وانجلو الفنية، وقد تعلم رافاييل من "بيروجينو" إدراك الأبعاد، ومن ليوناردو استوعب أساليب توزيع الضوء والظل في إبداع الصور، وتأثر بعبقرية ميشل انجلو في دراسة الجسد الإنساني، ولكنه فاقهما في توافق الألوان، ولم يكن تلميذا يقلد أساتذته بل  لقد استفاد منهم ثم بزهم في الابتكار والإبداع، واختلف عنهم في أنه لم يكن واقعيا يرسم نماذجه كما هي في الطبيعة، بل كان يبدع فيها طبقا للفكرة التي كونها في ذهنه.

وقد دعا البابا يوليوس الثاني للاشتراك في تزيين قاعات الفاتيكان وقد استطاع في ستة أشهر أن يبدع بالتصوير الحصّي على الجدران روائع فنية تنطق بنبوعه وعبقريته. منها "مدرسة آثينا" التي أوضح فيها خلاصة تاريخ الفلسفة، و"السر المقدس" لخص فيها تاريخ الكنيسة.

وله روائع أخرى يجل عنها الوصف. ولكنه مات في شرخ شبابه قبل أن تستنفذ النهضة الفنية منه كل طاقاته.

النهضة العلمية:

كانت الحياة العلمية في العصور الوسطى مقيدة بقيود الكنيسة، ولذلك كانت الكشوف العلمية نادرة، ولم يستطع المشتغلون بالعلم أن يفكروا بطريقة فردية، بل كانوا يعتقدون فيما قاله أسلافهم، واضعين نصب أعينهم تطابق العلم بما ترضي عنه الكنيسة، بينما كان بعض البابوات يحاربون أي دراسة حرة إذا لم تتمش مع الدراسات الدينية، على أن اتصال الأوربيين –وعلى رأسهم الإيطاليون- بالحضارة الإسلامية منذ القرن الحادي عشر ساعد أوربا على أن تبدأ نهضة علمية بلغت أوجها في أوائل القرن الثالث عشر، وقد غزت الحضارة الإسلامية أوربا من خلال وصول العرب إلى أسبانيا، وجزيرة صقلية، ومن خلال الحروب الصليبية، ونزوح طلاب العلم من غرب أوربا إلى مراكز الحضارة الإسلامية. وكانت تلك الاتصالات بداية لظهور التفكير العلمي الحر، فقد كان العرب قد نهلوا من التراث الإغريقي، فدرسوه ونقدوه وصححوه وأضافوا إليه من نتائج بحوثهم ومكتشفاتهم.

ولم تكن تلك البداية نهضة علمية حقيقية، ولكنها كانت بذورا نمت وترعرعت من القرن السادس عشر ثم بلغت عظمتها في القرن السابع عشر، وقد ساعدت الحركة الإنسانية على ظهور النهضة العلمية فقد كان معظم علماء النهضة ينتمون إلى تلك المدرسة، يهتمون بتحقيق النظريات العلمية ووصف ظواهر الطبيعة وصفا جديدا قائما على الملاحظة والعلوم الرياضية، ففي علم الفلك ظهرت نظرية الفلكي كوبرنيك التي محت الفكرة القديمة بأن الأرض ثابتة والشمس والكواكب تدور حولها، واثبت بما لا يدع مجالا للشك أن للأرض حركة دائرية كسائر الكواكب وأنهاه تدور حول الشمس.

وقد شهد القرن السادس عشر أيضا نهضة في علم الطبيعة (الفيزياء) والرياضيات والطب والعلوم الطبيعية والتجريبية وعلم التشريع (الفسيولوجيا).

وبالجملة فإن عصر النهضة يعتبر عصر تحلل وانتقال من قيود العصر الوسيط، وفيه أصبحت التجارب العلمية شرطا أساسيا لتثبيت قواعد العلم الصحيح ووضع النظريات في مستوى القوانين العامة.

أما العلوم الاجتماعية والسياسية فقد ازدهرت في إيطاليا بعد أن تحرر الفكر وظهرت مفاهيم جديدة للإنسان. وظهر مفكرون درسوا أصول الحكم والسياسة والاجتماع، وكان أشهرهم في تاريخ الفكر السياسي ماكياقيللي (1469-1527).

ماكيافيلي (1479-1527) Machiavelli:

نشأ نيقولا ماكيافيللي في فلورنسة، في عهد أميرها "لوران الفاخر"، وكان حريصا منذ صباه على تثقيف نفسه ثقافية تاريخية وسياسية، قرأ خطب شيشيرون وكتبه في السياسة، وإلياذة فرجيل، وكتابات أرسطو. وقد تدرج في المناصب الحكومية في فلورنسة منذ أن التحق بخدمه حكومتها عام 1498 أمينا لمجلس العشرة الذي كان مكلفا بتأمين العلاقات الإدارية مع المدن التابعة لفلاونسة، وعهد إليه في الوقت نفسه بأمانة سر إدارة الجمهورية.

وكان ماكيافيللي يؤيد نظام الحكم الجمهوري ويندد الحكم الاستبدادي بعد أن تعمق في الموازنة بين الحكم الجمهوري في روما القديمة وعصر الإمبراطورية الرومانية الألمانية التي عاصرها ماكيافيللي، وكان يكره رجال الكنيسة ويحتقر الرهبان لأنهم في نظره مراءون مخادعون، ولكنه لم يكن يكره السياسي المخادع إذا خدع الشعب لمصلحة الشعب.

وقد اشترك في أعمال سياسية كثيرة كلف بها من قبل الحكومة عندما كان أمير سر الدولة فقد أوقدته، حكومة فلورنسة في عدة مهمات سياسية خارج فلورنسه، وعلى الأخص لدى بلاط فرنسا في عهد لويس الثاني عشر في عامي 1500 و 1504، وإلى روما سنة 1503، وقد أفادته كثيرا تلك البعثات السياسية وأطلعته على أسرار السياسة الأوربية والعلاقات الدولية.

وحاول أن يبشر بآرائه التقدمية في جمهورية فلورنسه، حيث كان يراها ضعيفة تتسلط عليها الأطماع الشخصية وتتنازع فيها الأحزاب، وأنها تعيش بغير جيش وطني يجمعها بدلا من الاعتماد على الجنود المرتزقة ولكن ذهبت صيحاته أدراج الرياح، وضعف شأنه عندما عاد آل مدريشتي إلى الحكم في صيف عام 1512 وسقطت الجمهورية الفلورنسية، ولم تعد له خطوة في البلاط الجديد، عندئذ تفرغ للتأليف، ووضع كتابه "الأمير"، ضمنه كل أفكاره عن أصول الحكم وفن السياسة مستوحيا آراءه من دراسته التاريخية عن الحكم اليوناني والإمارات الإيطالية منذ العصور الوسطى حتى العصر الذي عاش فيه. وقد انتهى في كتابه إلى أن خير حكم يرجوه لبلاده هو الحكم الاستبدادي المستنير، الذي يتجاهل المثل الخلقية والدينية إن كان فيها ما يعرقل نجاحه أو يوقف تقدمه.

وقد رأى ماكيا فيللي أن يكون متابه عن أمير وطني يتخيله منقذا لإيطاليا من الانقسام والغزو الأجنبي، فيقدم له النصح والإرشاد والحكمة السياسية، واضعا نصب عينيه مبدأ الغاية تبرر الوسيلة حتى ولو اختلفت الوسيلة مع المبادئ الخلقية المتواثرة، وليس معنى هذا أن تطبق تلك النظرية في كل الظروف إذ نجد في كتابه بعض الإرشادات التي تتمسك بالمبادئ الخلقية ما دامت هذه المبادئ لا تقف حجرة عثرة في سبيل تأسيس الدولة القوية، وبذلك كان يميل إلى الواقعية، وبذلك تتكون الدولة التي يقوم فيها الأمير بتوحيد البلاد ورأب الصدع وجمع شتات الوطن الإيطالي الممزق، وأن يكون هدفه المصلحة العليا للبلاد، وينتهي ماكيا فيللي إلى نصح الأمير بأن يكون إنسانا وطاغية من وقت واحد معا، وإن لم يكن كذلك (فلا بقاء له)، وعليه أن يكون مخادعا عند اللزوم، ولا يرتبط بوعد بذله ولا لعهد قطعه على نفسه، وألا يعطي الحرية للناس إلا بقدر، لأنهم في كثير من الأحيان يسيئون استعمال الحرية، ويستغلون مراكزهم، كذلك يطلب من "الأمير" أن يتخذ الحزم والقسوة أسلوبا يحكم به الرعايا حتى يخشون بأسه ويحذرونه بطشه، وفي الوقت نفسه يعمل على استعادهم بالسعي في إقامة مشروعات نافعة تدر عليهم الخير الوفير. وبذلك يرهبونه ويحبونه في وقت معا.  ولكنه أصر على ألا يحرم الناس من ممارسة الحرية في ظل طاعة الحاكم، حتى يأمن من كراهيتهم ومن المؤامرات التي قد تدبر ضده.

وأخيرا، يعود إلى رأيه الذي طالما نادى به، وهو أن الدولة التي لا جيش لها، ليست في مأمن من الخطر الداخلي والعدواني الخارجي، فعلى "الأمير" أن يجند جيشا وطنيا يرهبه ويخلص له، وأن يختار وزراءه وحاشيته من أفضل الرجال وحكمائهم ويفتح بابه لأصحاب المواهب والكفايات حتى تصبح حكومته جمهورية مثالية تخشاها الرعية وتلتف حلها.

وقد انتشرت آراء ماكيافيللي في عدد من الدول الأوربية التي حاول ملوكها تطبيق نظرياته كفرنسا في عهد الملكة الوالدة كاترين دي مديتسي ولويس الرابع عشر، وبروسيا في عهد فردريك الأكبر، وغيرهما من حكام أوربا في القرن السادس عشر والسابع عشر.



 قائـمة المراجع المعتمدة

1-                             موريس كروزيه، تاريخ الحضارات العام،ط2، منشورات عويدات، بيروت، 1987.

2-         جان بيرنجيه وآخرون، أوروبا منذ بداية القرن الرابع وحتى نهاية الثامن عشر، ط1، منشورات عويدات، بيروت، 1995.

3-         خليل علي مراد وآخرون، دراسات في التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل،1988.

4-         عبد الحميد البطريق وعبد العزيز نوار، التاريخ الأوروبي الحديث من عصر النهضة إلى أواخر القرن الثامن عشر، دار الفكر العربي، القاهرة،1982.

5-                             عبد الحميد البطريق، التيارات السياسية المعاصرة1815-1960،بيروت،1974.

6-         عبد العظيم رمضان، تاريخ أوروبا والعالم الحديث من ظهور البرجوازية الأوروبية إلى الحرب الباردة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1997.

7-         جلال يحيى، التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر حتى الحرب العالمية الأولى، الإسكندرية،1983.

8-                             هـ.أ.ل .فشر، تاريخ أوروبا في العصر الحديث(1789-1950)،ط7، القاهرة،1976.

 

   اقرأ ايضا:

التوسع الأوروبي وحركة الكشوف الجغرافية

حركة الاصلاح الديني

النهضة الأوروبية

انتعاش الكنيسة الكاثوليكية حركة الإصلاح المضادة

حرب الثلاثين عاما(1618-1648)

إنجلترا في القرن السادس عشر (عصر أسرة تيودور) 1485-1603

إسبانيا وثورة الأراضي المنخفضة

الثورة الفرنسية

 

 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة