مميزات الإدارة الفرنسية في تونس
مميزات الإدارة الفرنسية في تونس
مقدمة
-*جدور التاريخية للاستعمار الفرنسي لتونس
أولا: الأوضاع السياسية لتونس
ثانيا: السياسة الفرنسية في تونس
ثالثا: نظام الحكم و الإدارة في تونس
1_ نظام الحكم
_الباي
_الوزراء
_مجلس الوزراء
_المديرون الفنيون
_المقيم العام للجمهورية الفرنسية بتونس
_الهيئات النيابية
_المجلس الكبير
2_ الادارة
رابعا: مميزات الإدارة الفرنسية في تونس
الخاتمة
قائمة
المصادر و المراجع
مقدمة
خضعت تونس على غرار البلدان
العربية الأخرى إلى سيطرة الاستعمار الفرنسي والذي كان موجودا قبل فرض الحماية
الفرنسية سنة 1881 من خلال الجالية الفرنسية الموجودة في تونس وسيطرتها على
المشاريع الكبرى في تونس، هذا الوجود الفرنسي الشامل جعلها تفرض الحماية على تونس
تحت ضغط من القوات العسكرية يوم 12ماي 1881 رغم أن فرنسا بعد فرضها لنظام الحماية
لم تلغي النظام السياسي التونسي وجعلته تحت تصرف المقيم العام الفرنسي الذي جرد
بايات تونس من سيادتهم على السلطة وبقي حكم الباي شكلي فقط ولم يتوقف الاستعمار
الفرنسي عند هذا الحد فقط بل واصل تغلغله و الدخول إلى المجتمع التونسي فقد استهدف
الإنسان التونسي في شخصيته وهويته الإسلامية.
أولا: الأوضاع السياسية لتونس
بعد فرض الاحتلال الفرنسي غدت الحكومة التونسية (الباي ورجال السلطة العليا) مجرد واجهة شكلية للحكم الوطني، وأصبح منصب المقيم العام وهو - موظف يمثل الحكومة الفرنسية في تونس- ومساعدوه من المدنيين والعسكريين، هم الحكام الفعليين للبلاد وفي المجالات كافة. وكان من اختصاصات المقيم العام، التوجيه والإرشاد في إدارة سياسة البلاد الداخلية، إلا أن الأمر اختلف بعد ذلك، إذ أصبح المقيم العام صاحب الكلمة الأولى في تونس لاسيما بعد أن ألحقت فرنسا معاهدة باردو بمعاهدة أخرى عرفت باتفاقية (المرسی الكبير في الثامن من حزيران ۱۸۸۳، في عهد الباي (علي بن الحسين ۱۸۸۲-۱۹۰۲)، وكانت أكثر وضوحا وصراحة في فرض الاحتلال، إذ كان هدفها منح صلاحيات أكبر لفرنسا التكريس احتلالها لتونس في المجالات كافة[1] هكذا وقع في قصره کسار سعید معاهدة عهد بها لفرنسا للشؤون الخارجية والدفاع عن الإقليم وإصلاح الإدارة. في الواقع ، يتم وضعها تحت "حماية" فرنسا حتی لو أصبحت تونس "محمية" رسميا فقط في 8 يونيو 1883 ، عند توقيع معاهدة المرسي ، التي تؤكد السابقة وتمنح فرنسا الحق في إقامة "إصلاحات إدارية وقضائية ومالية[2] ولم تكتف الحكومة الفرنسية بذلك بل أصدرت مرسومة عام ۱۸۸٤ وسع من اختصاصات المقيم العام، وتعين مدراء في الوزارات التونسية كخبراء أو مستشارين، لكن معظم الوزارات ألغيت، وتحولت إلى دوائر كالمالية والمعارف والصحة والإشغال العامة التي تولاها مدراء فرنسيون لهم الحق في إصدار الأوامر الإدارية. من جانب آخر كان هناك منصب سكرتير الإقامة وهو حلقة الاتصال بين الوزراء التونسيين والمدراء الفرنسيين، وبصيغة أخرى كان هو المسؤول عن تسيير شؤون الوزارات التي بقيت شكلية بيد التونسيين، في حين تولت حكومة الجمهورية الفرنسية إصدار المراسيم التشريعية للجالية الفرنسية حسب مرسوم عام ۱۸۸۳، وذلك هو أساس المبدأ الذي تمسك به المستوطنون الفرنسيون، وسموه فيما بعد ب (السيادة المشتركة أما من حيث القانون فقد أدى الفرنسيون، دور المشرع في القوانين والتشريعات التونسية، واستأثروا بها لتدعيم سياستهم وتقوية شوكة مواطنيهم، فعمدوا إلى تجميع السلطات المملوكة للمحاكم القنصلية بين يدي المحكمة الفرنسية، والقنصليات المتفرعة عنها، بمقتضى القانون الفرنسي المؤرخ في السابع والعشرين من آذار ۱۸۸۳، والنافذ المفعول في الثامن عشر من نيسان ۱۸۸۳ إما الباي فكانت سلطته اسمية، لكن الفرنسيين ادعوا بأن للباي حق التشريع وهو صاحب السلطة المطلقة، ومن ثم له حق تفويضها لمن يشاء. وبموجب اتفاقية المرسی، منح الباي تفويضا إلى المقيم العام الفرنسي حق تشريع القوانين التي تخدم الطرفين، ولذلك فهو[3]
يشرع المراسيم ثم يصدرها بعد توقيع الباي عليها، وقد وجد الاحتلال الفرنسي في عهد الباي على منفذا طليقا لسياسته أما عن وظائف الدولة الأخرى، فقد تغلغل الفرنسيون في أصغر الوظائف غير مراعين اختلاف طبيعة نظام الحماية عن الاحتلال، إذ جعلت الحكومة الفرنسية جميع الوظائف ذات الأهمية في الإدارة بيد الفرنسيين وشجعهم عن طريق منحهم علاوات مختلفة (سكنية وتعليمية وصحية وتعويضات سفر ....الخ)، التي بلغت 75% من ميزانية الدولة التونسية). في الوقت نفسه حال الاحتلال الفرنسي دون مشاركة التونسيين في أي نشاط سياسي، وتمثل المظهر الوحيد لإشراك التونسيين في الحياة العامة في قيام المجالس البلدية في المدن بقاعدة مناصفة المقاعد بين الجالية الأوربية والتونسيين. وفي عام 1896 أسس مجلس شوری يؤخذ رأيه في سبيل الاستشارة في رسم السياسة الاقتصادية للبلاد، وظل ذلك المجلس مقتصرة على المستوطنين فيختارون ممثليهم من بين أعضاء الغرف التجارية والصناعية، وعندما سمح للتونسيين بدخول هذه المجالس للمرة الأولى عام ۱۹۰۷ جعل تمثيلهم بالتعيين وعلى الرغم من كونهم أقلية في المجلس فقد لوحظ ارتفاع أصوات المعارضة في وجه الممثلين الأوربيين، لذلك تقرر جعل هذا المجلس قسمين يجتمع كل منهما على حدة وظل الفصل بين الأعضاء التونسيين والأوربيين هو القاعدة التي سارت عليها المجالس البلدية والتشريعية في تونس، فأقحمت عدد من التعديلات على هذه المجالس إلا أنها كانت بعيدة عن الاستجابة للرغبات الوطنية ومن الناحية العسكرية، قسمت تونس إلى تسع عشر قيادة، وألحق بكل واحدة قائد عسكري ومشرف مدني فرنسي، وينضم إلى مجلس المقيم العام قائد الجيش البري، ثم أضيف إليه قائد قاعدة بنزرت البحرية، بعد أن صارت من أكبر القواعد البحرية الفرنسية في المغرب العربي ومن أجل تغيير صنع القرار السياسي لصالح الحكومة الفرنسية، شجعت الأخيرة منذ بداية احتلالها لتونس، مواطنيها على التجنيس والهجرة إلى تونس بعد أن وفرت لهم كل المغريات المادية، ولما كانت ايطاليا أقرب إلى تونس فقد تعرضت البلاد للهجرة الجماعية من كلا البلدين، ناهيك عن هجرة أعداد كبيرة من المالطيين، وقد استمرت الهجرة والاستيطان الأجنبي، ولاسيما والفرنسي والايطالي[4]
ثانيا: السياسة الفرنسية في تونس
وقد تذرعت الحكومة الفرنسية بضرورة حماية الحدود الجزائرية لتبرير تدخلها في تونس مدعية أن هذه الحدود تتعرض باستمرار هجومات القبائل التونسية وبالخصوص قبائل بني حمير. وآخر حدث سجل في هذا المجال تمثل في اغتيال مواطن من أولاد سدرة من قبيلة حمير فوجي في شهر فيفري 1881 صحية فتاة من قبيلة ناهد الجزائرية كانت على موعد معه في مقاطعة قسنطينة. وكان هذا الحدث كافيا لتدخل القوات الفرنسية في الإيالة. فقد جرت أثره عدة مناوشات بين قبيلتي ناهد وحمير أدت إلى تدخل السلط «الجزائية» بدعوى الحفاظ على الأمن في الحدود ثم إلى الأمر إلى مواجهة بين الجيوش الفرنسية والقبائل التونسية يومي 30 و 31 مارس 1881. وقد استغل « جول فيري » هذا الوضع فبسط المسألة أمام البيلان وطلب منه أعتمادات قيمتها خمسة ملايين فرنك التنظيم حملة عسكرية لمعاقبة القبائل التونسية القاطنة على الحدود وردعها، وصادق أعضاء البرلمان على ذلك في 7 افريل 1881 بدون اعتراض. وهذا ما أكدته السلطات العسكرية الفرنسية نفسها عندما بينت أن «أحداث شهري فيفري مارس 1881 كانت تشكل فعلا بعض الخطورة، ولكنها لم تكن كافية لتبرير الموقف الذي اتخذته الحكومة الفرنسية في تلك الفترة»، وهذه الأحداث على حد تعبير هذه السلطات نفسها س « لا تمثل في نهاية الأمر سوى فرصة انتهزناها بسرعة للخروج من وضعية متردية ولتحقيق أهداف سياسية أسمى وأكثر أهمية» [5] يعيش الشعب التونسي تحت کابوس من الإرهاب لا نجد له نظيرا حتى بين الدول الديكتاتورية ؛ والحريات العامة لا وجود لها منذ أن فرضت فرنسا حمايتها على هذه البلاد ، والشعب التونسي لا يملك ولو جزءا بسيطا من الحرية في أي مظهر من مظاهرها ، وإذا استثنينا بعض فترات صغيرة في تاريخ الحماية نجد أن السياسة الفرنسية المتبعة هي مصادرة الحريات العامة ، سواء في الاجتماع او القول او التنقل ، والاستناد إلى القوة وفرض الأحكام العسكرية لإخضاع البلاد وتكميم أفواهها ، حتى لا تستطيع أن تجرأ بالشكوى من ارهاق المستعمرين وفي عهد الاستقلال كانت الحريات العامة مضمونة بمقتضى عهد الأمان ) ( الدستور التونسي)، الذي أصدره ای تونس سنة ۱۸۵۷ ، وبمجرد ما فرضت فرنسا على تونس عمدت إلى القضاء على كل الأنظمة الدستورية الموجودة ، ومن جملتها القوانين التي كانت تضمن الحريات العامة . فأصدرت سلسلة من التشريعات الفاشية قضت بها على هذه الحريات ففيما يخص الصحافة أصدرت عدة قوانين تجعل من المستحيل أن توجد في هذه البلاد صحافة حرة ، دون أن تتعرض لبطش الإدارة وإرهاقها ، وأول هذه القوانين الأمر الصادر ف14اکتور سنة ۱۸٨٤ ، وهو الذي يخول السلطة حق تعطيل الصحف بمجرد قرار إداري، و يفرض على المخالفين عقوبات صارمة ، كما تضمن هذا الأمر إلزام أصحاب الصحف بدفع ضمان مالی باهظ . وقد ألقي الضمان في 16 أغسطس سنة ۱۸۸۷ ، ثم ارجع ف ۲ بنار سنة ۱۸۹۷ ، وتسبب عنه تعطيل جميع الصحف التونسية التي كانت تصدر في ذلك الحين، ما عدا جريدة واحدة هي جريدة « الحاضرة[6]
وبينما كانت الصحف وجميع النشريات العربية خاضعة لهذه القوانين الصارمة كانت الصحافة الفرنسية في ذاك العهد تتمتع بكامل حريتها ، وقد اشتهرت حملاتها ضد التونسيين ومصالحهم وبالإضافة إلى ذلك تضمنت قوانين سنة ۱۸۸٤ الرقابة على دخول الصحف المبادرة في البلاد الأجنبية منها فرنسا . وفي 8 نوفمبر سنة ۹۱۱: أثر حوادث (الجلاز) المشهورة اعلنت السلطة الفرنسية الأحكام العرفية في تونس وعطت جميع الصحف ماعدا جريدة « الزهرة) و بقيت البلاد تعيش في ظل الإرهاب وتحت كابوس من خنق الحريات حتى سنة ۱۹۲۰ حيث اندفع الشعب التونسي يتحدى القوة الناشئة ، فانتشرت الحركة الوطنية في البلاد وظهرت عشرات الصحف ولكن هذه الحالة لم تدم طويلا ، فسرعان ما بادرت السلطة الفرنسية مرة أخرى إلى إصدار سلسلة من التشريعات في ۲۹ يناير سنة ۱۹۲۹ - عرفت بالقوانين الاستثنائية - أتت بها على جميع الحريات العامة ، ومن بينها حرية الصحافة ، وأصبح كل فرد في تونس لا يستطيع أن يطمئن على نفسه من إرهاق السلطة الفرنسية ، ولو كان في عقر بيته ؛ إذ أصبح عرضة لأقسى العقوبات ، حتی على ما يقوم به من حديث في مجالسه الخاصة. وإزاء هذه القيود المفروضة على الصحف العربية ، راي الوطنيون أن يصدروا عنهم باللغة الفرنسية ؛ نظرا لتمتع هذا النوع من الصحافة بكافة الحريات . فأخذوا الامتيازات بواسطة بعض الفرنسيين . ولكن السلطة الفرنسية سارعت إلى وضع قيود حديدية على هذا النوع من الصحف أيضا . ثم عززت السلطة هذه التشريعات الجائرة بأوامر أخرى صدرت في ۲۷ او سنة ۱۹۳۳ ، أعطت بمقتضاها للمقيم العام الفرنسي حق اعتقال أي فرد بدون اية محاكمة وإذا كانت هذه الأوامر تتيح المقبوض عليهم تكليف عام الدفاع عنهم أمام الإدارة نفسها ؛ فإن هذا الدفاع لا نتيجة له ما دامت الإدارة هي صاحبة السامية العليا ، وهي الحاكمة بأمرها دون أي اعتبار على ان السلطة الفرنسية [7] عادت فسحبت هذا الحق من المقبوض عليهم في أواخر سبتمبر سنة 1934. وقد اتخذت السلطةهذه الأوامر وسيلة للقضاء على الحركة الوطنية المتأججة في البلاد ، فاعتقلت قادة الحزب الحر الدستوري لمدة سنتين بدون أية محاكمة ، كما أصدرت أوامر تقضي بمحاكة كل من رفع الدم التونسي او يحمل شارة بها الوان هذا العلم، او ينشد الأناشيد الوطنية وعلى إثر الظاهرات العنيفة التي قام بها الشعب التونسي في ابريل سنة۱۹۴۸ احتجاجا على الاضطهاد الذي تعانيه البلاد ، أعلنت السلطة الأحكام العرفية من جديد ، أصدرت جميع الحريات ، وعانى الشعب التونسي خلال الثماني سنوات التالية من تعسف السلطة الفرنسية وطنيانها ما لم يعان نظيره من قبل ، وصار العشرات من ابرياء يودعون في اعماق السجون لجرد الوشاية بهم ، ويظلون في السجون ؛ حيث تسلط عليهم أنواع التعذيب و تفرض عليهم الأعمال الشاقة ، حتى لاقى الكثير منهم حتفهم . واشند طغيان السلطة الفرنسية بشكل لم يعهد له نظير بعد سقوط فرنسا في يونيو سنة 1940 تحت حكومة . ثم عاد بصورة أفظع في عهد فرنسا الحرة التي ملأت السجون واعتقالات بأحرار التونسيين وعذبت المئات منهم وأعدمت الكثيرين دون أية محاكمة ، وخلعت جلالة الملك محمد المنصف بای تونس ، ثم نفته إلى صحراء أتوات في الجزائر . و بقيت [8]
البلاد ترزح تحت کابوس الأحكام اذا كانت الرقابة قد فنيت عن الصحف ۲۰ أبريل سنة ۱۹۹۷ فإن الأحكام العرفية ما تزال أمة . وبالإضافة إلى ذلك فإن الشعب التونسي لا يتمتع بحرية التنقل ؛ فإن السلطة الفرنسية نضع العراقيل في سبيل كل من يريد السفر إلى الخارج ، وخاصة إلى البلاد العربية أما التنقل داخل القطر التونسي ، فهو مقيد كذلك ؛ إذ أن هناك مناطق لا يسمح بالدخول إليها والتنقل داخلها إلا بإذن خاص ، وهي مناطق الجنوب التونسي ، وتسمی و بالمناطق العسكرية .[9] ويعاني سكان هذه المناطق جميع انواع الاضطهاد والتعسف من جراء جبروت السلطة العسكرية الفرنسية التي تعامل السكان معاملة العبيد وتسخرهم كالدواب . وبالإضافة إلى هذا فإن الحرية الفردية معدومة في تونس ، وكثيرا ما تعمد السلطات المحلية في أنحاء القطر التونسي إلى العقاب بالسجن الإداری بدون محاكمة، وكذلك تسخر الأفراد للعمل الإجباري لمصلحة الإدارة واحيانا لمصلحة المعمرين وهكذا نرى أن الشعب التونسي يعاني مأساة ناجمة ، هي ماساة الحقوق الديمقراطية التي تمر فرنسا على أن لاتدع للشعب التونسي أي مظهر من مظاهرها ، وتحاول بمختلف التشريعات الجائرة أن تحرمه من جميع الحريات العامة التي هي أساس الحياة الديموقراطية وعمادها . والحقيقة التي تبدو من وراء ذلك هي ان فرنسا لاتعتمد في حكمها لتونس الاعلى القوة، وانها تتنكر لجميع المبادئ الديمقراطية، فتكتم انفاس الشعب ومنعه من حرية السلام والاجتماع والتنقل ، هذه الحريات التي لا يستطيع أي شعب أن يعيش بدونها[10] اتجهت فرنسا في سياستها بتونس نحو فرنسة البلاد ، وسلكت لذلك سبلا كثيرة جعلت في مقدمتها تحقيق تفوق العنصر الفرنسي في البلاد . فلم تقتصر على تشجيع هجرة الفرنسيين إلى تونس بفتح ابواب الوظائف التونسية في وجوههم ، والإغداق عليهم من الميزانية التونسية بالمرتبات الضخمة ، والمنح المتعددة ، وباقطاعهم الأراضي الخصبة التي ننزعها من أيدي أصحاب البلاد ، بل أضافت إلى ذلك أن سهلت على الأجانب وحتى على التونسيين أنفسهم الحصول على الجنسية الفرنسية ولم تحترم في تنفيذ هذه الخطة القوانين الدولية الخاصة بالجنسية ، ولا السيادة التونسية التي اعترفت بها في المعاهدات ، بل سارت في تنفيذ هذا البرنامج على مراحل متعددة ، فأصدرت مختلف القوانين الفرنسية من جهة ، وأجبرت بای تونس من جهة أخرى على إصدار أوامر عالية لتحقيق نفس الغرض . وكانت الجنسية الفرنسية تمنح للأجانب المقيمين بفرنسا بمقتضى قانون ۲۹ يونيو سنة ۱۹۵۷ ، وللاجانب المقيمين بالجزائر بمقتضى قانون 14 يونيو سنة ۱۸۰ . أما الإقامة بتونس فلا تعطى حق اكتساب الجنسية الفرنسية لأن الأرض التونسية ، لا تعتبر ارضا فرنسية . وعملت فرنسا - بعد فرض حمايها - على تذليل هذه العقبة من جهة ، كما عملت من جهة أخرى على جعل الحصول على الجنسية التونسية مستحيلا ، بينما سهلت اسباب الخروج منها ، ومن هذه القوانين قانون ۲۱ ونيو سنة ۱۸۹۹ الذي يقضي بأن الفرنسية التي تزوج أجنبية لا تبع جنسية زوجها ، إلا إذا كانت قوانين الدولة التي ينتمي إليها زوجها تسحب عليها جنسيته . أما إذا كانت هذه القوانين لا تخولها ذاك ، فإنها تبقى على جنسيتها الأصلية ، وهكذا فان الفرنسية التي تتزوج تونسيا تبقى فرنسية ، والحال أنه - قبل صدور هذا القانون[11]
الذي يقضي بأن الفرنسية التي تتزوج أجنبيا لا تبع جنسية زوجها ، إلا إذا كانت قوانين الدولة التي ينتمي إليها زوجها تسحب علها جنسيته . أما إذا كانت هذه القوانين لا تخوفا ذاك ، فإنها تبقى على جنسيتها الأصلية ، وهكذا فان الفرنسية التي تتزوج تونسيا تبقى فرنسية ، والحال أنه - قبل صدور هذا القانون - كانت تتبع جنسية زوجها . أما الأمر المالي المؤرخ في ۲۹ بوايو سنة ۱۸۷۷ فإنه أعطى تسهيلات كبيرة للتونسيين الذين يرغبون في كسب الجنسية الفرنسية ، كما أنه قرر أن « الأرض التونسية ، معتبرة « ارضا فرنسية ، بان جعل إقامة الأجانب فيها لمدة ثلاث سنوات تخولهم حق اكتساب الجنسية الفرنسية وهكذا أصبحت الإقامة في تونس معتبرة الإقامة في فرنسا نفسها ، وهذا مخالف القانون الدولي ، وفيه اعتداء على السيادة التونسية ثم ازدادت التسهيلات توسعا بالنسبة للأجانب المقيمين في تونس ، وكذلك بالنسبة للفرنسيين الذين تخلوا عن جنسيتهم ثم رغبوا في الرجوع إليها ، وذلك بمقتضى الأمر المالي المؤرخ في ۲۸ فبرار سنة ۱۸۹۹ الذي استصدرته السلطة الفرنسية من الباي ، حتى تجعل القوانين التي صدرت في فرنسا نفسها صالحة لأن تطبق في تونس ( قانون ۲۹ بونيو سنة ۱۸۸۹ وامر قرار سنة ۱۸۹۷)، ما جاء الأمر المالي المؤرخ في اكتور سنة ۱۹۱۰ بتسهیلات جديدة بالنسبة التونسيين، إذ تم على سحب الجنسية الفرنسية على ابناء التجنيس من التونسيين ، وكان لهم - قبل صدور هذا الأمر - الحق في الاختيار بين الجنسيتين ، بينما بقى أبناء الأجانب يتمتعون هذا الحق واصدق مثال على اعتداء فرنسا على حقوق الجنسية التونسية ما جاء في التشريع الذي استصدرته في 8 نوفر سنة ۱۹۲۱ ، وهو يفضى بإخراج الأجانب الذين ولد أجدادهم بتونس من الجنسية التونسية ، وإلحاقهم بالجنسية الفرنسية ، ما عدا الإيطاليين الذين كانوا يتمتعون بامتيازات خاصة . ولأجل أن نعطى السلطة الفرنسية لاعتدائها هذا صبغة القانون ، ونجمله لا يتعارض مع قانون الجنسية التونسية، قررت أن هؤلاء الأجانب يكتسبون اولا[12] الجنسية التونسية ، ولكنهم يتركونها في نفس الوقت لتنحسب عليهم الجنسية الفرنسية وفي هذا الإجراء اعتداء صارخ على قانون الجنسية التونسية التي أقرته فرنسا نفسها ، وقد جاء في الأمر المالي المؤرخ في 8 نوفمبر سنة ۱۹۲۱ ، وهو آخر تشریع صدر في شأن الجنسية التونسية : « يعتبر تونسيا كل شخص ره بالقطر التونسي من أبوين أحدهما ولد بتونس - هذا عدا الفرنسيين ودعا فرنسا من غير التونسيين - مع مراعاة الاتفاقات والمعاهدات التي عقدها تونس مع الدول و بمقتضى هذا الأمر أن الدولة التونسية - كغيرها من الدول - تتمتع بحق فرض جنسيها على الأجانب إذا توفرت فيهم شروط معينة ، ولكن هذا الأمر أصبح غير معمول به، إذ بمجرد ما يصبح الأجنبی تونسيا تفرض عليه الجنسية الفرنسية وكان الغرض من إصدار هذا التشريع هو فرنسة الجاليات الأجنبية المقيمة بتونس ، حتى يتعزز بها العنصر الفرنسي . وقد طبق لأول مرة على الجالية المالطية التي كانت تقيم بتونس منذ أجيال ، ويبلغ عددها ۵۲ر۱۳ نسمة . ولكن انجلترا احتجت على هذا الاعتداء الواقع على رعاياها ، ورفعت القضية أمام جمعية الأمم ، ثم أمام محكمة العدل الدولية الدائمة سنة ۱۹۳۳ ، التي قررت ان المعاهدة الأنجليزية التونسية المبرمة سنة [13]
۱۸۷۰ تعطي هذه القضية صبغة دولية ، ثم قررت فرنسا وانجلترا إعادة النظر في الموضوع بالطرق الديبلوماسية ، وفي النهاية تم تطبيق هذا التشريع بفرنسة قسم كبير من الجالية المالطية بلغ عدده ۱۹۰ه شخصا . وفي النهاية تعززت كل هذه التشريعات القانون الفرنسي (الصادر في ۲۰ ديسمبر سنة ۱۹۲۳) الذي فتح باب التجنس الاختياري بالجنسية الفرنسية على مصراعيه، ولم يشترط لذلك غير شروط بسيطة ، حتى اصبحت الجنسية الفرنسية تعطى لكل من يقدم طلبا لذالك ويظهر عواطف فرنسية [14] وهكذا أصبحت الجالية الفرنسية بتونس تتكون اليوم من مختلف الأجناس البشرية التي رمى بها البحر الأبيض المتوسط ، وقد وفدت على تونس بقصد الاسترزاق السهل واستغلال خيرات البلاد ، وتقدر هذه العناصر الأجنبية الفرنسية الجالية الفرنسية المقيمة في تونس اليوم. وقد حاولت فرنسا تطبيق هذه السياسة على التونسيين أنفسهم ، وخاصة في عهد المقيم لوسيان سان سنة ۱۹۲۱، ولكن هذه السياسة أخفقت كل الإخفاق وطويت صفحتها نهائيا سنة ۱۹۳۳ ، إذ شعر الشعب بخطرها ووقف صفا واحدا في معارضها ، مما أدى إلى اضطرابات و حوادث دامية اصبحت مشهورة في تاريخ الجهاد التونسي ومن جملة الوسائل التي استعملها فرنسا لتيسير الالتحاق بجنسيتها بالنسبة العرب والأجانب المقيمين بتونس - زيادة على التسهيلات القانونية - ما كانت تقدمه للتجنيس من مختلف المنح والامتيازات التي تخصها للفرنسيين انفسهم.[15]
ثالثا: نظام الحكم و الإدارة في تونس
1- نظام الحكم
إن البحث في أنظمة الدولة التونسية بعد فرض الحماية بسبعين عاما كافي وحده لإبراز الاعتداءات الفرنسية على تونس، ولكشف الستار عن النوايا الفرنسية الحقيقية.
1- الباي:إن رئيس الدولة التونسية هو دائما جلالة الباي الذي جمع في قبضته قانونا السلطات كلها بعد أن ألغي العمل بدستور عام 1861، وما زالت سياسة فرنسا ترمي إلى المحافظة على الملكية المطلقة، حتى لا يكون للشعب حق في البلاد التونسية، وحتى لا يتغير الوضع القانوني الذي سمح لها أن تجعل من بلاد أجنبية عنها مستعمرة فرنسية في الواقع، فهي تدعي دوما أن جميع المعاهدات لم تبرم بين تونس وفرنسا، بل بين جلالة الباي صاحب المملكة التونسية وبين فرنسا، وكانت تستلب منه نفوذه تارة بالترهيب والوعيد وطورا بالوعود الخلابة ودعوى الإصلاح، ولم تزل تعارضه بالتهديد السافر والقوة المسلحة إذا ما رأت منه إرادة صادقة في منح تونس نظاما دستوريا ديمقراطيا يضمن للشعب حقوقه ويجعله صاحب السلطان في البلاد. وبقيت هكذا السلطات التشريعية بيد الباي، ولكن الأوامر العلية (المراسيم الملكية) لا تعلن ولا تصطبغ بالصبغة التنفيذية إلا إذا صادق عليها المقيم العام للجمهورية الفرنسية بتونس، وفي ذلك من الاعتداء ما هو غني عن كل بيان؛ إذ تعسفت فرنسا بنص اتفاقية المرسى تعسفا شانا لتستخرج منها نفوذا جديدا عاما لممثلها يتحكم بمقتضاه في جميع ما يسن من قوانين وأنظمة، ولا يوجد نص رسمي تونسي يبرر ما اغتصبة المقيم العام من نفوذ، ولكنه اعتمد على قرار صادر عن رئيس الجمهورية الفرنسية بتاريخ 8 نوفمبر ۱۸۸۶ فوض للمقيم العام للجمهورية الفرنسية أمر المصادقة باسم الحكومة الفرنسية على إصدار وتنفيذ جميع ما يتخذه سمو الباي من أوامر في القطر التونسي.
2- الوزراء: جرت العادة بأن تسند وزارة الخارجية إلى المقيم العام. أما وزارة الحربية ووزارة البحرية،[16] ما رأت منه إرادة صادقة في منح تونس نظاما دستوريا ديمقراطيا يضمن للشعب حقوقه ويجعله صاحب السلطان في البلاد. وبقيت هكذا السلطات التشريعية بيد الباي، ولكن الأوامر العلية (المراسيم الملكية) لا تعلن ولا تصطبغ بالصيغة التنفيذية إلا إذا صادق عليها المقيم العام للجمهورية الفرنسية بتونس، وفي ذلك من الاعتداء ما هو غني عن كل بيان؛ إذ تعسفت فرنسا بنص اتفاقية المرسى تعسفا شادا لتستخرج منها نفودا جديدا عاما لممثلها يتحكم بمقتضاه في جميع ما يسن من قوانين وأنظمة، ولا يوجد نص رسمي تونسي يبرر ما اغتصبه المقيم العام من نفوذ، ولكنه اعتمد على قرار صادر عن رئيس الجمهورية الفرنسية بتاريخ ۸ نوفمبر ۱۸۸۶ فوض للمقيم العام للجمهورية الفرنسية أمر المصادقة باسم الحكومة الفرنسية على إصدار وتنفيذ جميع ما يتخذه سمو الباي من أوامر في القطر التونسي.[17]
3- الوزراء جرت العادة بأن سند وزارة الخارجية إلى المقيم العام. أما وزارة الحربية ووزارة البحرية، فتلغيان في الغالب أو تسندان إلى كل من القائد الأعلى لجيوش الاحتلال والأميرال قائد الأسطول الفرنسي ببنزرت. أما بقية المناصب الوزارية فقد كان يحتلها دائما تونسيون، وقد أخذ عددها يزداد لاتساع الإدارة التونسية.
(أ) الوزير الأول يشرف الوزير الأول على سير الإدارة العامة للمملكة التونسية، وقد أثبت الواقع أنه ليس له السلطة المباشرة عليها، ويعرض الأوامر والمشروعات على الطابع الملكي ويرأس مجلس الوزراء ويسهر على تنسيق الأعمال بالوزارات والإدارات الفنية، بصفته رئيسا للسلطة التنفيذية، ولوظيفته مشمولات أخرى فيما يتعلق بالتشريفات ومراقبة العمال (المتصرفين أو الولاة) والمحافظة على أوراق الدولة، ويعينه للقيام بمهام وظيفته كاتب عام للحكومة التونسية .[18]
(ب) وزير العدلية إن نظر وزير العدلية لا يشمل إلا المحاكم التونسية؛ لأن المحاكم الفرنسية تابعة رأسا الوزارة العدل الفرنسية. وقد عمدت فرنسا إلى المحاكم التونسية، فوضعتها تحت رقابة موظفين فرنسيين، فجعلت على رأس إدارة العدل مديرا فرنسا، وأناطت مهمة النيابة العامة بموظفين فرنسيين، وأسندت رئاسة دائرة النقض والإبرام لقاض فرنسي.
(ج) وزير الدولة يقتصر عمله على النظر في شئون إدارة الأعمال والأحباس (الأوقاف).
المديريات والمقاطعات) والبلديات
(د) وزير الشئون الاجتماعية
وهو لا ينظر إلا في الشغل ومشاكل العمال. وزير التجارة والصناعة - وزير الصحة العامة - وزير الزراعة.
3- مجلس الوزراء إن مهمة مجلس الوزراء إدارية بحتة؛ لأن تركيبه المزدوج من وزراء تونسيين ومن مديرين فنيين فرنسيين يجعله لا يلعب أي دور في السياسة، ويقتصر عمله طبق الأمر العلي المؤرخ في 8 فبراير 1951 على توجيه وقيادة عمل الحكومة العامة، ولا يكون له مفعول إلا إذا صادق جلالة الباي على ما يقرره، فيتبين جلا من ذلك أن جلالة الباي لم يرد إسناد مشمولات السلطة التنفيذية بالمعنى السياسي إلى ذلك المجلس المكلف بالتنسيق الإداري فقط. أضف إلى ذلك أن مجلس الوزراء الذي يسمي الباي أعضاءه ليس بمسئول أمام برلمان.[19]
4- المديرون الفنيون الفرنسيون يشارك في مجلس الوزراء عدد من المديرين الفنيين الفرنسيين، الذين احتلوا في الواقع المناصب الرئيسية وانتزعوا النفوذ من التونسيين شيئا فشيئا، حتى أصبحوا يتحكمون في كل الشئون
(أ) الكاتب العام للحكومة التونسية
أحدث منصب الكاتب العام للحكومة التونسية بأمر علي بتاريخ 4 فبراير ۱۸۸۳؛ بقصد فض الأمور الإدارية بوحدة أشمل وسرعة أكبر من ذي قبل، وليمد صاحب ذلك المنصب الوزير الأول بالمساعدة، ولكنه سرعان ما [20]
أصبح المراقب الفرنسي الأول على الإدارة التونسية، وصارت جميع أعمال وقرارات الوزير الأول ورؤساء المصالح العامة الأخرى غير نافذة، ما لم تحمل تأشيرته. ولنلاحظ أن النص التأسيسي لذلك المنصب لم يخصصه بموظف سام فرنسي الجنسية؛ لأن الوظيف نفسه تونس، ولكن جميع الذين احتلوه في الواقع موظفون فرنسيون كان المقيم العام يعرضهم وكان الباي يسميهم. نعم حذفت تأشيرة الكاتب العام بمقتضى الأمر العلي المؤرخ في 8 فبراير ۱۹۰۱، ولكنها عوضت حالا بموافقة المقيم العام التي قامت مقامها. وما زال الكاتب العام موظفا واسع النفوذ قويه، فهو يجمع الشئون المدنية والإدارية تحت نفوذه، ويراقب المصالح العامة مراقبة إدارية، كما أنه يراقب أولا: الموظفين؛ أي إنه المتحكم الحقيقي فيهم يوظف ويرقي ويعزل. ثانيا: المصاريف؛ أي إنه يتحكم في الواقع في ميزانية الدولة سرا، ويمكن له هكذا أن يعطل مصالح التونسيين كما يريد؛ بأن يمنع عنها ما يلزمها من مال لأتفه الأسباب، كما أنه يراقب وضع التصميم الاقتصادي للبلاد وتطبيقه، وهو مكلف أيضا بنشر الأوامر العلية (المراسيم الملكية) والقرارات الوزيرية على الرائد الرسمي التونسي (الصحيفة الرسمية).
(ب) الكاتب العام المساعد وهو موظف فرنسي سام يساعد الكاتب العام ويقوم بأعماله أثناء غيابه.[21]
(ج) مدير المال
كان في الأصل وزيرا تونسيا يسهر على المالية العامة، ولكن كثرة القروض والصعاب المالية التي لقيتها تونس في أواخر القرن الماضي وضغط الدول الكبرى، أجبرت الباي على إسناد ذلك المنصب إلى وزيره الأول الذي كان يعمل بمعاونة لجنة دولية لتصفية الديون التونسية. ولم تنشأ وزارة المالية بعد الحماية، بل أسند منصب مدير المالية» إلى أحد الموظفين الفرنسيين، ومنذ ذلك الحين أصبح الفرنسيون يتعاقبون عليه طبق أوامر علية يصدرها لهم الباي. فبعد أن تسرب الفرنسيون إلى إدارة المالية العامة، واستحوذوا عليها ودعموا أقدامهم فيها، حرموا على التونسيين مشاركتهم في مسئولياتها واتخذوها حصنا حصينا للسيطرة على البلاد وثروتها والتحكم في مصيرها المالي والاقتصادي، حتى بلغت بهم الفكرة الاستعمارية منتهاها، فادعى وزير خارجية فرنسا «روبير شومان» في تصريح أدلى به أمام المجلس الوطني الفرنسي يوم 19 يونيو ۱۹۵۲، أن المالية التونسية من اختصاصات فرنسا، لا يمكن لها أن تتنازل عنها، فخرق هكذا المعاهدة التي احتج بها. وهذا البند السابع من معاهدة «باردو» يقول: «تحتفظ دولة الجمهورية الفرنسية ودولة سمو الباي لنفسها بحق الاتفاق على وضع نظام مالي بالمملكة التونسية، من شأنه الوفاء بواجبات الدين العام وضمان حقوق دائني المملكة.» لا يمكن أن يصبح ذلك التنظيم المالي الذي نص عنه أبدا، بل لا بد أن يكون محدودا بزمن؛ خصوصا وإنه فيما يتعلق بتونس قد تم منذ عهد طويل؛ إذ عرف بالضبط مقدار الديون وأبان دفع أقساطها. أما اتفاقية المرسى فقد اقتصرت على «أن يتعهد سمو الباي المعظم بألا يعقد قرضا في المستقبل لحساب المملكة التونسية دون إذن سابق من الحكومة الفرنسية»، فهذا شرط تحفظي فقط لا [22]
يعطي فرنسا حق التصرف مباشرة في مالية تونس إلى الأبد. إن ديون المملكة التونسية تقدر اليوم بثمانين مليارا من الفرنكات تمكن دفعها في مدة عشرين سنة بالتقسيط؛ إذ ما دامت تونس تابعة لفرنسا ماليا، وما دامت وزارة المالية العامة خارجة عن يد التونسيين فإنه يستحيل أن تتقدم البلاد نحو استقلالها الحقيقي، ولو حصلت على كثير من رغباتها السياسية الصرفة؛ إذ يكون التونسيون لجهلهم بما يحاك لهم في ذلك الميدان يوضعون أمام الأمر الواقع، ويجدون أنفسهم دوما أمام حالة مالية مزعجة خطرة تجعل حريتهم وهما واستقلالهم خیالا.[23]
(د) مدير الأشغال العامة
وهو دائما موظف تونسي يسميه الباي، وهو يتصرف في قسم كبير جدا من الميزانية التونسية، من غير أن يعقب أي تونسي أعماله.
(ها) مدير التعليم العمومي وهو أيضا موظف فرنسي يسمى بأمر علي، ويشمل نظره جميع مؤسسات التعليم الدولي الخاص، وقد اتخذت فرنسا إدارة التعليم أداة لبث لغتها وتجنيس العقول ومحاربة اللغة العربية والتضييق في نطاق التعليم حتى يبقى الجهل عاما.|
(و) مدير البريد
وهو موظف فرنسي.
(ز) مدير البناء والسكن
وهو موظف فرنسي.
(3) المقيم العام للجمهورية الفرنسية بتونس وقد أخرناه لكثرة الكلام عنه:
إن الوزير المقيم العام يمثل الجمهورية الفرنسية لدى الباي قبل كل شيء، وهو مكلف بالسهر على تنفيذ معاهدة ۱۲ مايو ۱۸۸۱، وبأن يكون الواسطة في العلاقات بين الحكومة الفرنسية والسلطات التونسية في جميع الأمور المشتركة بين البلدين، وقد جعله الباي أيضا (الأمر العلي، و يونيو ۱۸۸۱) الواسطة بينه وبين الدول الصديقة. لقد أحدثت فرنسا بتونس عددا وافراد من المصالح والمؤسسات الفرنسية البحتة، وجعلتها تابعة للوزارات الفرنسية رأسا، ثم أسندت للمقيم العام طبق قرار فرنسي مؤرخ في ۲۲ أبريل ۱۸۸۳ التمثيل المباشر لهذه الوزارات والمصالح العامة الفرنسية، ومكنته من حق المكاتبة رأتها إلى الجهات المختصة والوزراء الفرنسيين الذين يرسلون له تعليماتهم.[24] وأرادت فرنسا أن توسع نفوذ المقيم العام، وأن تجعله الرئيس الأعلى بتونس، فوضعت بقبضته - طبق قرار أصدره رئيس الجمهورية الفرنسية لتاريخ ۲۳ يونيو ۱۸۸۵ – «سلطات الجمهورية بتونس؛ تحت إمرة قواد الجيوش البرية والبحرية وجميع المصالح الإدارية المتعلقة بالأوروبيين والأهالي.» واتبعت فرنسا طريقتها التعسفية، فطبقت تلك القرارات بحذافيرها تطبيقا كليا، وإن لم يصادق عليها أي نص صادر عن ملك البلاد الشرعي. وأرادت فرنسا أن[25]
تستولي استيلاء حقيقيا تاما على السلطة التشريعية، فأصدرت مرسوما من رئيس الجمهورية الفرنسية مؤرخا في 10 نوفمبر ۱۸۸۹ جاء فيه: «يفوض رئيس الجمهورية الفرنسية المقيم العام للموافقة باسم الحكومة الفرنسية على الأوامر العلية (المراسيم التي يصدرها سمو الباي، ولإعطاء هذه المراسيم القوة التنفيذية داخل القطر التونسي»، فأصبحت بذلك جميع المراسيم التي يصدرها سمو الباي لا مفعول لها إلا بعد توقيع المقيم العام الفرنسي عليها. ثم اختصرت الإجراءات بأن صارت الإقامة العامة، هي التي تعد جميع المراسيم الملكية، ثم تعرضها على سمو الباي لوضع ختمه عليها بدون أن يكون له سابق اطلاع عليها، بل أصبح الموظفون الفرنسيون يحتجون الاحتجاجات الصاخبة إذا ما أراد الأمير تغيير لفظة أو فقرة لا تمس جوهر الموضوع أحيانا، ويصرحون بأن لا حق له في إدخال أي تحوير عليها. أما امتناعه عن توقيع مرسوم مهما كان، فيثير عاصفة في الأوساط الفرنسية إلى أن تم لفرنسا احتكار السلطة التشريعية وتسخيرها الفرض حكمها المباشر وتنفيذ برامجها الاستعمارية بمراسيم صادرة في الظاهر عن الدولة التونسية. ثم زادت الإصلاحات المزعومة الصادرة بتاريخ فبراير ۱۹۰۱ نفوذ المقيم اتساعا عندما أعطته الحق في إبداء «موافقته» أو «توصياته» على جميع المشاريع والقرارات المراسيم النظامية أو الشخصية التي يتخذها أعضاء مجلس الوزراء. وقد حرر البندان العاشر والحادي عشر من الأمر العلي المؤرخ في 8 فبراير ۱۹۰۱، حسب رغبة الحكومة الفرنسية، بكيفية تمنح في الواقع للمقيم العام حق تعطيل (فيتو) جميع أعمال الوزراء التونسيين وإن البوليس المدني وقواته موضوعة تحت سلطة المقيم العام وتحت تصرفه، وقد كانت مصالح البوليس منذ نظمها الأمر العلي المؤرخ في 17 أبريل ۱۸۹۷ تابعة للكتابة العامة للحكومة التونسية، ولم تنفصل عن الحكومة التونسية إلا في سنة 1943 لتصبح[26] ملحقة بالإقامة العامة؛ فإن الأمر العلي المؤرخ في ۲۰ أبريل 1944 وضعها تحت سلطة مدير فرنسي تابع رأسا للمقيم العام، ولم يخجل وزير خارجية فرنسا «روبير شومان» عندما استشهد بالمعاهدات التي خرقها بقوله في تصريحه أمام المجلس القومي الفرنسي يوم 19 يونيو ۵۲، عندما ادعى أن الأمن الداخلي بالقطر التونسي من اختصاصات فرنسا، مع أن البند الثاني من معاهدة باردو لم ينص إلا على احتلال القوات العسكرية الفرنسية للمراكز التي تراها صالحة لاستتباب النظام والأمن بالحدود والسواحل، ومن قال الحدود والسواحل إنما يقصد الدفاع عن الأمن الخارجي قبل كل شيء. أما الأمن الداخلي فهو من مشمولات الحكومة التونسية؛ إذ لا يعقل ولا يتصور أن تحكم أية حكومة في بلاد من غير بوليس. وقد أحدث المقيم العام أثر إصلاحات ۸ فبراير 1951 - من غير مصادقة الباي ولا اطلاع الحكومة التونسية - إدارة الأمور السياسية والإدارية التي أصبحت تشرف في الواقع على جميع الهيكل الإداري التونسي ومن أعجب المهازل الاستعمارية أن المقيم العام هو الذي يتوج الملك مباشرة، ويجلسه على عرش آبائه وأجداده؛ ليوهمه أن فرنسا هي صاحبة الحق في أن تبرئ من تشاء على عرش تونس، وقد احتج على هذا الإجراء المغفور له الهادي باي عندما فاجأه المقيم العام لأول مرة بهذا الاعتداء[27]
وفصلت فرنسا مناطق الجنوب التي تقدر بثلث القطر التونسي عن بقية الوطن ووضعتها تحت الحكم العسكري المباشر، وبتصرف ضباط فرنسيين تابعين لقائد الاحتلال، وأناطت إدارتها بالمقيم العام. وينوب عن المقيم العام في المناطق الجهوية المختلفة والمقاطعات الترابية التونسية المراقبون المدنيون، وقد كانت مهمة هؤلاء الموظفين الفرنسيين في أول الأمر تقتصر على رقابة العمال التونسيين (المتصرفين) والتأشير على مكاتباتهم، وبصفتهم رجال الرقابة الفرنسية يخضعون في أنظمتهم إلى نصوص قانونية فرنسية، ويتلقون تعليماتهم من المقيم العام، وأصبحوا طبق مشمولات وظيفتهم أصحاب الإدارة الحقيقية في النطاق المحلي. وبعد أن كانوا مراقبين للعمال فقط صاروا مستشارين لديهم، ثم عوضوهم شيئا فشيئا في القيام بمسئولياتهم، وبات النفوذ كله بأيديهم؛ كلمتهم لا ترد وسلطتهم في الواقع لا تحد وكأنهم ملوك الطوائف في سيطرتهم، وتحكمهم لا يطاق؛ خصوصا وأن البوليس لهم والجيش تحت تصرفهم.[28]
وإن الأمر العلي (المرسوم الملكي) المؤرخ في أبريل ۱۹۳۸ قد مكن المقيم العام من سلطان قوي واسع له بمقتضاه أن يقرر وضع حالة الحصار في أية جهة من القطر وفي أي زمان شاء، وله أن يطبق قراره فيمكن له إذ ذاك أن يتخذ ما يراه صالحا من طرق الاضطهاد من استخدام القوة المسلحة ومن إلقاء القبض على من يريد، وسجن من يريد، ومن تفتيش المحال العامة والخاصة سواء في النهار أو في الليل، ومن إحالة التونسيين إلى المحاكم العسكرية الفرنسية حيث يحاكمون طبق المجلة الجنائية الفرنسية. بينما النظام العدلي المادي المطبق على التونسيين مستمد من مجلة جنائية تونسية أصدرها ملك البلاد.
(4) الهيئات النيابية
ليس لتونس هیئات نيابية سياسية، وإن تونس تعيش منذ 15 مايو 1951 من غير مجالس نيابية أصلا، وكانت المجالس النيابية لغاية ذلك التاريخ (المجلس الشوري من ۱۹۰۷ إلى ۱۹۲۲، والمجلس الكبير من ۱۹۲۲ إلى ۱۹۰۱) هيئات استشارية ذات اختصاص محدود لا يتعدى النظر في الميزانية وقد تكونت أيضا غرف استشارية ذات اختصاص فني فقط تمثل المصالح الاقتصادية (كالغرف التجارية والغرف الفلاحية وغرفة المناجم وغيرها). وقد تأسست أخيرا بلدیات منتخبة في مدن القطر التونسي، ولم يعترف شعب تونس بها؛ لأن الفرنسيين ممثلون بها مع أنهم أجانب. ولكن هذه المؤسسات كلها فاسدة من أصلها؛ لأن اختيار أعضائها مقام على قاعدة منافية للديموقراطية، ولأن اختصاصها ضيق هزيل، فتونس محرومة من هيئة نيابية مؤسسة على دستور يسمح لها أن تأخذ مسئوليتها البرلمانية التي أصبحت ضرورة حتمية في كل دولة عصرية.[29]
(5) المجلس الكبير
وهو مجلس استشاري مركب من قسمين:| القسم التونسي: يتكون من 53 عضوا يمثلون ثلاثة ملايين ونصف مليون من التونسيين، ينتخبون من الدرجة الثانية من طرف نواب لا يشارك في اختيارهم إلا[30] عدد ضئيل من السكان. وإن الإدارة الفرنسية تحتاط في اصطفاء الناخبين والمنتخبين لكي تبعد كل مرشح لا يروقها. أما القسم الفرنسي: فهو يتركب من 53 عضوا يمثلون 150 ألف فرنسي، وانتخابهم عام سنوي. ويستشار المجلس الكبير في النصوص الرسمية المتعلقة بالأمور المالية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن آراءه واقتراحاته لا تفيد الحكومة في شيء، ويمكن له أن يقدم ببعض التوصيات لتبديل المراسيم المعمول بها، ولكن كل مناقشة حول المواضيع السياسية والدستورية محجرة عليه تحجيرا باتا (البند 40 من مرسوم 15 ديسمبر 1945)، وكذلك يخرج عن اختصاصه النظر في مصروفات الإقامة العامة والمحاكم الفرنسية والأمن العام. وأما في الميدان المالي فلا تكون توصيات في المجلس الكبير محل اعتبار إلا إذا اتفقا عليها جميعا، وأن توافق عليها الحكومة الفرنسية (البند ۳۰ من نفس المرسوم)، وزيادة على ذلك فإن مصادقة وزير الخارجية الفرنسية على الميزانية التونسية ضرورية قبل أن يصدرها الملك بمرسوم. وإذا اختلف القسمان، فالمرجع هو اللجنة العليا للميزانية التي تنظر في نقط الخلاف تحت رئاسة المقيم العام، الذي يكون صوته راجحا. (مرسوم 8 فبراير ۱۹۰۱). ولم يقع تجديد المجلس الكبير عندما انتهت مدته بتاريخ 9 ديسمبر ۱۹۰۱. ولقد أعلمت الحكومة الفرنسية حكومة تونس أثناء المفاوضات بباريس، برغبتها في المحافظة مؤقتا على النظام الحالي للمجلس الكبير ريثما يتكون برلمان فرنسي تونسي. فأجابت الحكومة التونسية بأن مشاركة الفرنسيين المقيمين بتونس في برلمان تونسي يعتبر اعتداء جديدا على السيادة التونسية، فاحتفظت بالموقف الذي اتخذته في مذكرة ۳۱ أكتوبر، أي بوجوب تكوين برلمان تونسي بحت حسب رغبة الشعب التونسي بأسره وإرادة الملك الواضحة التي عبر عنها في خطاب 15 مايو 1951.[31]
2- الادارة
كان فرض فرنسا لصيغة الحماية بحثا عن شكل آخر مغاير لتجربة ضم الجزائر اليها وكانت تلك التجربة قد كبدتها خسائر باهضة في المال والرجال ، فكانت الصيغة جديدة ومستوحاة من سابقة احدثتها[32] تتمثل في حكم البلاد حكما غير مباشر بواسطة السلطة التنفيدية بابقائها في وظائفها ولكن بمراقبتها عن كثب. وهكذا فان دولة البايات وإدارتها ظلتا كما هما ولكن قام إلى جانبهما مراقبون فرنسيون من مقيم عام إلى جانب الباي وكاتب عام لدى الادارة المركزية والوزراء التونسيين ومن مراقبين مدنيين في الولايات يشرفون على القياد ومثلت السلطة بها. اما شؤون الدفاع والعلاقات الخارجية فهي وحدها التي انتقلت بتمامها وكمالها الى سلطات الحماية بمقتضى ما أبرم من المعاهدات. كانت النية حسنة ولكن الواقع كان مغايرا لذلك تماما فسرعان ما حاد المراقبون الفرنسيون عما[33]
انتدبوا اليه بطبيعة الحال فعمدوا إلى الادارة المباشرة ولم يتركوا لممثلي السلطة المحلية الا نفوذا صوريا. على انهم كانوا قليلي المعرفة والدراية بالمنهج والروح الذين تسير بهما ادارة عصرية . واخطر من ذلك أنه انتصبت بتونس مصالح « فنية » فرنسية محض ، تعهدت بادارة القطاعات الحديثة في حياة البلاد والتي ستكون عما قریب القطاعات الأساسية أي : قطاعات المالية والاشغال العامة والفلاحة والبريد والتلغراف والتعليم والشرطة وغيرها. ثم انه تم شيئا فشيئا وضع تشریع مناسب للوضع حتى يمكن من تركيز المعمرين الأوروبيين بالبلاد ومن تطوير الاحتلال . ومن الأمثلة على ذلك انه في سنة 1885 وضع قانون عقاري الغرض منه تصفية وضعية الاراضي ومنحها صفة املاك تامة الشروط على غرار ما انتهت اليه اوروبا في هذا الميدان بعد قضائها على النظام الإقطاعي. وكان القانون العقاري المستورد الى تونس مستوحى من قانون استرالي يدعی قانون تورنس ACT TORRENS وكانت فصوله مطبقة على حطام السفن التي يقذف بها البحر الى الساحل قبل أن تسند نهائيا الى صاحبها . وهكذا أصبح الاطار القانوني جاهزا لتطور الاستعمار الاقتصادي وكان ذلك الغاية القصوى التي يطمح اليها النظام الجديد .[34] اتجهت فرنسا منذ اليوم الأول الذي فرضت فيه حمايتها على تونس في الناحية الإدارية اتجاها يخالف مصلحة الشعب التونسي الحقيقية ، فلم تكتف بسيطرتها على إدارة البلاد والتحكم في وظائفها العأمة ، بل عملت على خلق إدارات جديدة لاتحتاج إليها البلاد ، وانما كان الداعي إليها إرضاء جيش من الفرنسيين والإغداق عليهم من مالية البلاد ، حتى يستقروا بها وتصبح لهم الأغلبية فيها . فوضعت القيم العام بجانب البای ليقوم على رأس إدارة الإقامة العامة التي تشمل دواوين متعددة ، وهو يشرف بواسطتها على كل الشؤون التونسية ، ويساعده الكاتب العام للحكومة التونسية - وهو فرنسي - ومدير الإدارات ، وكلهم موظفون فرنسيون وهوا بجانب الوزراء التونسيين ، ولهم النفوذ الحقيقي على جميع الإدارات ، وهنالك إدارات تعتبر فرنسية ، إذ لايوجد [35]
على راسها وزراء تونسيون ، کادارة الأشغال العمومية وإدارة البريد وإدارة المعارف ، كما لا يوجد بها إلا عدد ضئيل من الموظفين التونسيين الذين يشغلون وظائف بسيطة ، وهی إدارات فنية ، ولا تسمح السلطة الفرنسية للتونسيين المشاركة فيها [36] وينوب من القيم العام في المديريات و المراقبون المدنيون ، ويبلغ عددهم 64، وقد وضعوا بجانب ( عمال النواحي ، التونسيين ، ومراقبون أعمال هؤلاء و يصادقون على ما يتخذونه من إجراءات ، ويتمتعون بنفوذ واسع ولهم سلطة مطلقة في المناطق التي يتكون فيها ، إذ هم مسؤولون أمام القيم العام وحده ، وقد اشتهروا بجبروتهم وطنيانهم حتى لقبوا بقياصرة الآفاق وتشمل سلطة المال المحافظة على الأمن والفصل في القضايا البسيطة وجباية الضرائب ، ويساعدهم في أعمالهم وكلاؤم ( الخلقوات ) ، وعددهم ستمائة في كامل القطر .[37] هذا هو الهيكل الإداري في تونس ، وهو متشب بسبب وجود إدارتين : إدارة تونسية سورية وإدارة فرنسية حقيقية . وتسير السلطة الفرنسية في تونس نحو فرنسة الإدارة ، وذلك بإضعاف الإدارة التونسية الأصلية [38]
والقضاء عليها تدريجيا لفائدة الإدارة الفرنسية الدخيلة ، ومن جملة الوسائل التي تتخذها للوصول إلى هذا الغرض - زيادة عن الإكثار من الموظفين الفرنسيين - اعتبار اللغة الفرنسية في اللغة الأصلية في الإدارات ، إلى جانب اللغة العربية التي تعتبر ثانوية فيها ، ولا تشترط في الالتحاق بالوظائف العامة . وقد بلغ الأمر في بعض الإدارات كادارة البريد إلى أن أصبح العرب يحتاجون إلى مترجمين للتعامل معها ، وعدد المتخرجين لهذا السبب في جميع الإدارات حتى أنقل کامل الميزانية . ويمتاز الموظفون الفرنسيون بسوء معاماتهم للتونسيين وإعمالهم لصالحهم ، أما الرشوة فهي أساس كل المعاملات . اما منطقة الجنوب التونسي فتعد خارجة عن السلطة التونسية ، إذ تعتبر منطقة عسكرية يدير شؤونها ضباط في الجيش الفرنسي خاضعون لإدارة الشؤون الأهلية التابعة للقيم العام نفسه ، وقد امتاز الحكم العسكري في هذه المناطق بجبروته واضطهاده السكان . والإدارة العامة بأنها التونسي والفرنسي لها السلطة الطاقة في أعماله ونصرناها ، ولا تخضع لمراقبة هيئة تشريعية في البلاد ، والوزراء والمدرون غير مسؤولين عن أعمال أمام مجلس نيابي ، وإنما مسؤولون أمام القسم العام نفسه الذي يخضع لوزارة الخارجية الفرنسية. أما من ناحية الوظائف العامة فإننا نلاحظ انها لا تسير مع الحاجة الحقيقية الشعب ، بل نرى أنها تضخم في كل سنة، ففي سنة ۱۹۲۲ كان عدد الموظفين ۱۲٫۰۰۰، فارتفع عددهم شيئا فشيئا إلى أن باع ۰۰۰ر۳۰ في سنة 1947 ای بنسبة موظف واحد لكل مائة فرد من السكان والتونسيون ليسوا أقلية فقط في إدارة بلادهم ، بل هم أيضا بتقاضون في هذه الوظائف أقل بكثير مما يتقاضاه الموظفون الفرنسيون .[39] سنة ۱۹۱۹ يقضي بتطبيق ، الموظفين في فرنسا على مركز تونس نفسها ، وتطبيق كل زيادة في المرتبات على موظفي الإدارات التونسية ، بحيث أصبح الموظف في تونس يتقاضى نفس الراتب الذي يتقاضاه زميله في فرنسا ، ويضاف إلى ذلك مختلف المنح والامتيازات التي يتقاضاها الموظفون الفرنسيون خاصة ، وتبلغ 43 امتیاز) ، هذا مع أن الحد الأدنى المعيشة في تونس هو أقل بكثير مما هو عليه بفرنسا. وقد ادت هذه السياسة إلى إنتقال كامل الشعب كل سنة بضرائب جديدة ، لا تتناسب مع قابليته وقدرة البلاد المالية وقد ثار الراي العام التونسي ضد هذا التصرف الشاذ، واحتج الشعب مرارا على تضخم الإدارة وارتفاع ماهیات القوانين والأجحاف بحقوق الأهالى فيها ، حتى اضطرت حكومة باريس إلى تكون عدة لجان بقصد التحقيق ودرس الموضوع وتقديم المشروعات للتخفيف من نفقات الإدارات التونسية ، تمكين التونسيين من وظائف بلادهم. ولكن رغم ذلك كله ان الوضع لم يتغير ، بل ازدادت الإدارة نفخ، كما ازداد عدد الموظفين الفرنسيين بها وما بعد يوم ، وعند ما اشتدت مطالبة التونسين إصلاح الادارات و اسناد و ظائفها إلى أهل البلاد، بدات السلطات الفرنسية تنادی بمبدأ تشريك ، التونسيين في إدارة البلاد ، كما لو كانوا متطفلين عليها ، وليسوا من أصحاب الحق الأول فيها . ثم قررت السلطة الفرنسية بمقتضی مرسوم 3 يونيو سنة ۱۹۳۷ مبدأ المساواة في العدد بين الموظفين التونسيين والموظفين الفرنسيين ، ولكن هذا القرار لم ينفذ على حقيقته في يوم من الأيام بل بقى حبرا على ورق ، وازداد عدد الموظفين الفرنسيين منذ ذلك التاريخ [40]
وخاصة بعد يونيو سنة ۱۹٤۰ عندما اشتدت هجرة الفرنسيين إلى تونس بسبب الاحتلال الألماني لفرنسا . فضلت السلطات الفرنسية على توظيفهم في مختلف الصالح والإدارات ، بل أنشأت إدارات جديدة لا داعي لها إلا خلق الوظائف لهؤلاء المهاجرين.[41] وهكذا تضخم عدد المراقبين المدنيين الفرنسيين بشكل مفزع ، وأصبح لكل مدير من المديرين الفرنسيين أربعة من الوكلاء ، وانشئت إلى جانب ذلك دواوين جديدة ، كما أضيف إلى ديوان المقيم العام أقسام كثيرة ملئت کاها بالمهاجرين من الفرنسيين وإلى جانب هذا نجد أن الانقسام الذي حدث أثناء الحرب بين الفرنسيين الموالين لحكومة والموالين لجنة التحرر كان له أثر كبير في تضخم عدد الموظفين الفرنسيين ، ففي عهد حكومة عمدت السلطة الفرنسية إلى إبعاد الفرنسيين الموالين لديجول ، وتسویفهم بالفرنسيين ، وعندما تولت لجنة التحرر ، الفرنسية أبقت هؤلاء الموظفين في وظيفهم لنضمن ولاءهم لها، وارضت الموظفين المبعدين بإرجاعهم إلى وظائفهم ، وبذاء اكتفت الإدارات التونسية بجيش من الموظفين الفرنسيين، بينما لم تطرأ أية زيادة في عدد الموطنين التونسيين . وقد احتج القسم التونسي المجلس الكبير على هذه السياسة مرارا عديدة . وفي ابريل سنة 1947 تعهدت السلطة الفرنسية بإدخال إصلاحات إدارية تخفف من وطأة نفقات الإدارة ، على أن يتم ذلك قبل شهر أكتوبر سنة ۱۹۹۷، وجاءت لجنة رئاسة من فرنسا نفسها لهذا الغرض ، وانتهت أعمالها بمشروع قدم إلى السلطة الفرنسية بتونس ، ولكن هذا المشروع لم ينفذ بل مدت السلطة الفرنسية إلى تطبيق الأمر الفرنسي الصادر في 7 يوليو سنة ۱۹۹۷ على الموظفين بتونس ، ويقضي هذا الأمر بالزيادة في مرتباتهم ، وأضافت اعتمادا قدره ملیار فرنك فبشروع ميزانية سنة 1948 التنفيذ هذا الأمر. ولم تكتف بهذا بل قررت تعيين بعض مئات من الموظفين الجدد). ولكن الشعب أعلن الإضراب العام في ۲۰ ديسمبر احتجاجا على هذه [42]
التصرفات يوم افتتاح المجلس الكبير ، مما أدى بالأعضاء التونسيين في هذا المجالس إلى الامتناع من النظر في مشروع الميزانية مطالبين بإلغاء قانون ، وإنجاز الإصلاحات الإدارية الوعود بها [43] يقتضي نظام الحماية إبقاء المؤسسات التونسية الموجودة من قبل . ولكن فرنسا أحدثت إلى جانبها مؤسسات أخرى، منها ما تتمثل مهمتها في مراقبة أعمال الوزراء والموظفين التونسيين عن كثب، ومنها ما أقيمت لتمكين سلط الحماية من العمل المباشر في مختلف قطاعات النشاط السياسي والاقتصادي والقضائي والاداري والثقافي بالايالة . ومن ناحية أخرى فقد ورثت الحماية عن نظام البايات الحكم المطلق والمركزية الادارية المفرطة ، وتحاشت إقامة مؤسسات نيابية حقيقية واجتنبت الخضوع لرقابة البرلمان الفرنسي . حيث كانت البلاد التونسية تابعة لوزارة الخارجية بباريس وكانت تحكمها في الواقع السلطة المحلية التابعة للحماية تحت رقابة الحكومة الفرنسية فيما يتعلق بالأمور المالية فحسب. لأن فرنسا هي الضامنة في الديون التونسية .[44] كما احتفظ بالهياكل الاجتماعية للبلاد، من ذلك مثلا أن « العائلات الكبرى التي كانت تتمتع بامتيازات من قبل البايات قد حافظت على مكانتها بالادارة والجامع الأعظم[45] والمجالس الشرعية . وقد كانت سلطة الحماية تعول على تلك العائلات التي تحظى بالاحترام والطاعة من قبل التونسيين . وذلك للابقاء على هياكل المجتمع التونسي القديمة . واستعانت بخدماتها بدون خشية ، علما منها بأن «أبناء الذوات » قد تعودوا على الانقياد والمرونة للحصول على رضا الأمير واجتناب عواقب أمزجة البايات المتقلبة ، كما تعودوا على الطاعة وغض النظر عن تجاوزات ومظالم سیدهم . فيمكن أن يكونوا أدوات طيعة في أيدي السلطة الجديدة ومما لا شك فيه أن التنظيم الاداري الجديد يستجيب إلى الحاجيات الجديدة والنظرية الحديثة للتصرف في شؤون البلاد، ولكن أغلب المصالح الادارية «قد أحدثتها الحماية بطريقة تعسفية باعتبار أنها كانت من صنع و استنباط البشر ولم تكن ناشئة عن تطور البلاد ... فستكون تلك المصالح التي بعثتها الحماية أداة من أدوات سياستها الخاصة » وبمرور الزمن سيرتفع[46]
رابعا: مميزات الإدارة الفرنسية في تونس
تمثلت ادارة الاستعمارية الفرنسية في تونس بما يأتي
١- السيطرة السياسية المباشرة دون الغاء منصب الباي كما فعلت في الجزائر.
۲- تعيين مقيم عام فرنسي بمرسوم صادر عن رئيس الجمهورية الفرنسية، وهو حاکم
عام للبلاد وسكرتير عام للحكومة التونسية وهو يشبه رئيس الوزراء
٣- اقامة مجلس استشاري للرقابة المالية يمثل اصحاب المصالح من الفرنسيين مهمته
النظر في الموازنة والموافقة عليها.
٤- وضع نظم ادارية تخدم مصلحة الفرنسيين، وتسهيلات لمهمة رجال الاحتلال.
٥- احتكار الادارة العامة والمناصب الكبرى بتعيين رجال عسكريين فرنسيين مسؤولين
عنها.
٦- وضع رقابة على دخل البلاد بحجة تأمين مصالح اصحاب الديون الأجانب على
التونسيين، مما سهل سيطرة الفرنسيين على اراضي تونس لاسيما الخصبة منها.
۷- ادخال التعليم الفرنسي في مدارس خاصة لابناء طبقة معينة من اجل تخريج فئة معجبة بالثقافة الفرنسية لتكون عونا لفرنسا في السيطرة على الشعب التونسي، كما انشأت مدارس لابناء الفرنسيين، منعت فيها الثقافة العربية لادخال بعض أبناء الطبقة الخاصة من العرب الذين تخرجوا منها جاهلين لغتهم وتراثهم ومنعت المدارس[47] العربية، وكان بصيص الأمل يتمثل بجامع الزيتونة، الذي اقتصر التعليم فيه على العلوم الدينية واللغوية .[48]
8. السيطرة الاستعمارية المباشرة دون إلغاء منصب الباي كما فعلت بالجزائر
9. تعيين مقيم عام فرنسي دائم بمرسوم دائم من رئيس الجمهورية الفرنسية في تونس وهو حاكم عام
للبلاد وسكرتير عام للحكومة التونسية وهو يشبه رئيس الوزراء
10. إقامة مجلس استشاري للرقابة المالية يمثل أصحاب المصالح من الفرنسيين مهمته النظر في
الموازنة والموافقة عليها[49]
11. وضع نظم إدارية تخدم مصلحة الفرنسيين وتسهيلات لمهمة رجال الاحتلال
12. احتكار الإدارة العامة والمناصب الكبرى بتعيين رجال عسكريين فرنسيين مسؤولين عنها
13. وضع رقابة على مدخولات البلاد بحجة تأمين مصالح أصحاب الديون الأجانب على التونسيين مما اسهل سيطرة الفرنسيين على الأراضي التونسية لا سيما الخصبة منها
14. إدخال التعليم الفرنسي في مدارس خاصة لأبناء طبقة معينة من أجل تخريج فئة معجبة بالثقافة
الفرنسية لتكون عونا لفرنسا في السيطرة على الشعب التونسي، [50]
[1] جمعة عليوي فرحان الخفاجي و اخرون, السياسة الفرنسية حيال تونس (1881-1914), في مجلة الاستاد,ع214, 2015,ص.257
[2] Chatti(mustapha<<la réforme des structures administratives servir revue tunisienne du service public n.1.1967.p.29
[3] جمعة عليوي فرحان الخفاجي و اخرون,المرجع السابق,ص.257
[4] نفسه,ص.258
[5] الحبيب تامر: هذه تونس , مطبعة الرسالة, 1948,ص.40
[6] نفسه, ص.75
[7] نفسه,ص.76
[8] نفسه.ص.77
[9] نفسه,ص.77
[10] نفسه,ص.78
[11] نفسه,ص.79
[12] نفسه,ص.80
[13] نفسه,ص.81
[14] نفسه,ص.81
[15] نفسه,ص.82
[16] علي البلهوان: تونس الثائرة, هنداوي, 2017,ص.113
[17] نفسه,ص.114
[18] نفسه,ص.114
[19] نفسه,ص.115
[20] نفسه,ص.116
[21] نفسه,ص.116
[22] نفسه,ص.117
[23] نفسه,ص.117
[24] نفسه,ص.118
[25] نفسه,ص.119
[26] نفسه,ص.119
[27] نفسه,ص.120
[28] نفسه,ص.120
[29] نفسه,ص.121
[30] نفسه,ص.121
[31] نفسه,ص.122
[32] محمد الهادي الشريف: تاريخ تونس من عصور ما قبل التاريخ الى الاستقلال , ط.3,دار سراس للنشر,1993م,ص.99
[33] نفسه,ص.100
[34] نفسه,ص.100
[35] الحبيب تامر : هذه تونس,المرجع السابق,ص.66
[36] نفسه,ص.66
[37] نفسه,ص.66
[38] نفسه, ص.67
[39] نفسه,ص.67
[40] نفسه,ص.69
[41] نفسه,ص.69
[42] نفسه,ص.70
[43] نفسه,ص.70
[44] احمد القصاب: تاريخ تونس المعاصر(1881-1956),الشركة تونسية للتوزيع,تونس,1986,ص.267
[45] نفسه,ص.268
[46] نفسه,ص.268
[47] جميل بيضون: تاريخ العرب الحديث, دار الامل,1991م,ص.112
[48] نفسه,ص.113
[49] ميثم عبد الخضر جبار السويدي : الادارة الفرنسية في تونس(1939-1955) , في مجلة , العلوم الانسانية, ع.7.(د.ن),ص.92
[50] نفسه,ص.92
قائمة المصادر و المراجع
مصادر و مراجع باللغة العربية
- الحبيب تامر : هذه تونس,مطبعة الرسالة,(د.ن)
- علي البلهوان: تونس الثائرة, هنداوي, 2017
- جميل بيضون: تاريخ العرب الحديث, دار الامل,1991م
- محمد الهادي الشريف: تاريخ تونس من عصور ما قبل التاريخ الى الاستقلال , ط.3,دار سراس للنشر,1993م
- علي المحجوبي :انتصاب الحماية الفرنسية بتونس, سراس للنشر,1986م
- احمد القصاب: تاريخ تونس المعاصر(1881-1956),الشركة تونسية للتوزيع,تونس,1986,
مقالات و دوريات
- ميثم عبد الخضر جبار السويدي : الادارة الفرنسية في تونس(1939-1955) , في مجلة , العلوم الانسانية, ع.7.(د.ن)
- جمعة عليوي فرحان الخفاجي و اخرون, السياسة الفرنسية حيال تونس (1881-1914), في مجلة الاستاد,ع214, 2015
مصادر و مراجع باللغة الاجنبية
- Chatti(mustapha<<la réforme des structures administratives servir revue tunisienne du service public n.1.1967
إرسال تعليق