U3F1ZWV6ZTIwMTU5Nzc5NjQ2Nzg5X0ZyZWUxMjcxODUzMjIzNDU3Nw==

الوضع السياسي للإيالة التونسية خلال القرن السابع عشر الحادي عشر الهجري نظام الديايات نظام البايات المراديين الدولة المرادية تونس

الوضع السياسي للإيالة التونسية خلال القرن السابع عشر | الحادي عشر الهجري نظام الدايات نظام البايات المراديين الدولة المرادية تونس.


مقدمة

1- مرحلة قوة الدايات المراديين

- عثمان داي- يوسف داي

- اسطا مراد 

2- مرحلة ضعف الدايات وتنامي نفوذ البايات

- حمودة باشا المرادي وحصر نفوذ الدايات 

- مراد الثاني والصراع المباشر

3- تفاقم الصراع وبداية ضعف المراديين

- صراع الاخوة

 - محمد باي وثورة ابن شكر

 4- مراد باي الثالث ونهاية الدولى المرادية



نجح العثمانيون بعد استقرارهم في كل من الجزائر وطرابلس في تخليص البلاد التونسية من الاحتلال الأسباني، وأصبحت تونس منذ سنة 1574م إيالة عثمانية يرأسها باشا يعينه الخليفة العثماني في إسطمبول، وكانت تسمى رسميا سنجقا (1)، أي أنها ذات طابع عسکري إذ استقر بتونس أكثر من ثلاثة آلاف جندي انكشاري،يرأسه مجلس أعلى يدعى الديوان ويتكون هذا الأخير من مجموعة اغوات(2)، و بولكباشية (3)، ويعد الباشا هو الممثل السياسي للسلطان العثماني في الإيالة التونسية نظريا، إلا أنه وفي حقيقة الأمر، نجد أن رئيس مجلس الديوان كان صاحب القرار الميداني، كونه يتمتع بالقوة العسكرية اللازمة لغرض النظام، والتي تتمثل في الجيش الانكشاري، بينما تبقى سلطةالباشا رهينة سنوات حكمه المحدودة. ولقد تطور الوضع إلى أن أصبح هذا المجلس هو الهيئة التنفيذية الأولى، التي تبسط نفوذها وتأثيرها في جميع أرجاء البلاد (4).لقد مر الوجود العثماني بالإيالة التونسية بعدة مراحل و تنظیمات، وارتبط تطوره بجملة من الأزمات السياسية و العسكرية، حيث تميز في القرن السابع عشر نظامين رئيسين تطور أحدهما في كف الأخر، هما: نظام الدايات - نظام البايات


---------------------------------------------------------------


(1) بمعنى الراية أو العلم ، لكن في العهد العثماني يسمى السنجق أصغر وحدة في التقسيم الإداري. أنظر، مصطفی عبد الكريم الخطيب: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1996، ص 259

 (2) جميع أغا وهي كلمة ذات أصل فارسي بمعي الأب، أو العم، أو الأخ الكبير، استعملها الأتراك العثمانيون لدلالات عديدة، منها أغا الإنكشارية، وهو ما نقصده و هو بمثابة قائد الجيش. أنظر، مصطفى عبد الكريم الخطيب: المرجع السابق ،ص11.
(3) مرتبة عسكرية في العهد العثماني، والبلكباشي معناه قائد البلوك، الذي هو عبارة عن وحدة عسكرية بمثابة الفيلق . أنظر مصطفى عبد الكريم الخطيب: المرجع السابق، ص86.
(4) دلندة الأرقش و أخرون: المغرب العربي الحديث من خلال مصادره، مركز النشر الجامعي ميدياكوم، المغرب 2003،ص56،55.




-مرحلة قوة الدايات:

كانت بداية هذا النظام مع نهاية القرن السادس عشر، حيث قام جنود الانكشارية بثورة سنة 1591م على طائفة البولکباشية التي يمثلها كبار الضباط و أعضاء الديوان(1) . وقد جاءت هذه الثورة كرد فعل عن الأوضاع المزرية، التي آلت إليها البلاد التونسية بعد استئثار تلك الطائفة بأمور الحكم والمال(2) . وقد ترتب عنها مقتل معظم البولكباشية(3). إذ كانت بمثابة انقلاب عسكري، الهدف منه تحقيق الديمقراطية، حيث نجح الثائرون في فرض تعديلات جديدة على نظام الحكم، وانقسم الجيش إلى فئات، يرأس كل فئة منها داي منتخب(4). وقد شكلت مجموعة الدايات، الديوان، الذي يختار من بين أعضائه رئيسا للبلاد(5) . أما منصب الباشا فقد صار منصبا شرفيا، إذ يكتفي هذا الأخير بلبس الخلعة السلطانية، وتمثيل مصالح الباب العالي(6).بعد نجاح الثورة سنة 1591م، تتابعت سلسلة من الدايات الأقوياء على حكم تونس نذكر أبرزهم:


 أولا- عتمان داي:

مثل الداي"عثمان" أبرز الشخصيات منذ قيام الثورة، إذ سجل نهاية سنوات عديدة من الاضطراب، حيث عمل على توطيد نفوذه بالبلاد، وذلك بالقضاء على منافسيه، وفتح عصرا جديدا هو عهد سيطرة الدايات، إذ سرعان ما حاد عن مبدأ الديمقراطية وحاول الانفراد بالسلطة؛ حيث ساعده في ذلك قوة الشخصية والخبرة التي اكتسبها خلال تدرجه في المناصب


--------------------------------------------
(1) ألفونص روسو: الحوليات التونسية من الفتح العربي حتى احتلال فرنسا للجزائر، تج عبد الكريم الوافي، طا1،منشورات جامعة قاریونس ، بنغازي 1992م، 106.

(2) معين منوبة: نيل بشائر أهل الإيمان يفتو ساعته أل عثمان، تح الطاهر العموري، ط2، الدار العربية للكتاب، تونس 1975، ص

(3) عيد بن عبد الأندلسي الوزير السراج: الحلل السندسية في الأخبارالتونسية، تح: الحبيب الهيلة، ط1، دار الغرب الإسلامي، لينان 1985، ص

(4) دلندة الأرقش و أخرون: المرجع السابق، ص57

(5) محمد ابن أبي القاسم الرعيني القيرواني المعروف بابن أبي دينار: المؤنس في أخبار افريقيا وتونس، ط1، مطبعة الدولة التونسية، تونس 1286هـ /1870م، ص 200 

(6) حسين خوجة: المصدر السابق،ص22.




من جندي انكشاري إلى ضابط كبير (1) حيث استطاع أن يفرض سيطرته على البلاد، كما قام باستحداث منشين جديدين هما منصب "الباي"، الذي تكمن مهمته في النظر في شؤون القبائل و جباية الضرائب منها. وكذلاف منصب "القبطان" أي رئيس البحرية، وكان أول من عين بايا شخص يدعى "رمضان"، بينما أوكلت رئاسة الحرية "محمد بن حسين باشا" (2) وفي عهده قدم المهاجرون من الأندلس إثر قرار الطرد سنة 1609م (3) ، حيث وصل عددهم ما بين أربعين وخمسين ألف فرد من أصل ثمانين ألف غادروا إسبانيا(4)، أثروا الجانب الإقتصادي بتجارب، وخبرات عديدة، كما قاموا بإنشاء وإعادة إحياء عدة مدن، منها: زغوان، تستور، مجاز الباب، سليمان، قریش الواد، طبرية.... الخ. استمر حكم عمان داي حتى سنة 1019/ 1610 م، حيث توفي و خلفه "يوسف داي" في نفس السنة(5)

ثانيا- يوسف داي:

 سار على نهج سابقه في التخلص من منافسيه، ولترسيخ حكمه أحاط نفسه بشخصيات تشارکه نفس المصالح، منهم: العلج أسطا مراد جونفيزي "قائد الأسطول البتررتي"، ومصطفى القردتلس "رئيس جماعة الأندلسيين" مدعم بثلاثة ألاف (3000) رجل مسلح، وعلي ثابت من الأعيان المحليين ذوي الثروة(6).وقد عرف يوسف داي كيف يكسب رأي العامة بفضل سياسته الحكيمة، إذ يقول صاحب الذيل في ذلك:"... واستقام أمر يوسف دا، وانتشر عدله في الرعية، وأهل البلاد وحسن الثناء عليه..."، حيث أولى عناية خاصة لذوي العلم الذين تلتف حولهم العامة، وتجسد


----------------------------------------
(1) محمد الهادي التشريف: تاریخ تونس من عصور ما قبل التاريخ إلى الاستقلال، تح: محمد الشاوش و محمد عجينة، ط3 دار سراس للنشر، تونس 1993، ص 71-72.
 (2) الفونص روسو: المرجع السابق، ص 109. 
(3) دلندة الأرقش واخرون وأخرون: المرجع السابق، ص 55 
(4) أندريه ربمون: المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، تح: لطيف فرج، ط1، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1991 ،ص42.
(5) Paul Sebag: Tunis au XVII ème siècle me cité au temps de la course, édition l'Harmattan Paris 1989. p51.
(6) Boubaker Sadok: la régence de Tunis au XVII ème siècle, ses relations commerciales avec les ports de l'Europe, Marseille et Livourne, C.E.R.O.M.A, Zaghouan 1987, p 39.



 ذلك في شخصية الولي "أبي الغيث القشاش"(1). كما اتسم عهده بالرقي والرخاء، ويعود ذلك إلى الحزم الذي اتصف به في تسيير أمور البلاد(2). وقد وصفت فترة حكمه بالعصر الذهبي للحكم العثماني بتونس، حيث اهتم يوسف داي بتطوير الأسطول البحري، وذلك بهدف توسيع مجال القرصنة، إذ بلغ عدد مراكب أسطوله خمسة عشر مرکبا(15) من المراكب الكبار دون الصغار (3). وقد وقع الاختلاف في عهده بين تونس والجزائر حول مسألة الحدود ، الأمر الذي أدى إلى نشوب حرب بينهما في 1628/1037م، لكن سرعان ما اهتد الطرفان للصلح الذي أقر "وادي سراط" فاصلا حدوديا بين الإيالتين، فللجزائر ما وقع غربه، أما ما وقع شرقة فهو لتونس(4).كما توفي رمضان باي سنة 1022م/1613م، و ولي مكانه "مراد باي" (5) حيث أبدى تمكنا ونجاحا كبيرين في أداء مهامه أيام حكم يوسف داي، إذ نجح في قمع القبائل المتمردة كقبائل جبل وسلات ، و جبالية عمدون، أولاد سعيد، أولاد حمزة، أولاد بليل، وغيرها، وازداد نفوذه بالبلاد بعدما حصل سنة 1631م على لقب الباشا من الباب العالي، حيث ارتفعت مرتبته إلى منزلة الداي(6).. وقد تنازل مراد باي إثر ذلك عن المحلة لابنه محمد المعروف بحمودة، ثم وافته المنية في نفس السنة (7).

------------------------------------------------------
(1) حسين خوجة: المصدر السابق، ص 33 
(2) ألفونص روسو : المرجع السابق، ص 11 
(3) أحمد ابن أبي الضياف: إتحاف الزمان بأخبار ملوك تونس، وعهد الأمان، ط، الدار التونسية للنشر، تونس 1977م، ج2 ،ص39 .
(4) أبي عبد الله الشيخ عبد الباجي المسعودي: الخيمة النقية في أمراء إفريقية ،، ط2، تونس 1906م، ص92.
۔ انظر أيضا : الوزير السراج: المصدر السابق، ص ص 360-361
 (5) من أصول کور سيكية، أسلم على يد مولاه رمضان باي، إستنجبه يوسف داي و ولاه منصب الباي بعد وفاة مولاه. أنظر ابن أبي الضياف: المصدر السابق، ص ص40-41. أنطر كذلك. محمد بن الحسين خوجة: صفحات من تاريخ تونس، ط1، تح: جمادي الساحلي، الجيلالي بن الحاج يحي، دار العرب الإسلامي، بيروته 1956، ص 50 
(6) دلندة الأرقش و أخرون: المرجع السابق، ص 59.
 (7) ابن أبي الضياف: المصدر السابق، ص 41. أنظر أيضا: محمد الباجي المسعودي: المصدر السابق ، ص 93.


ثالثا- أسطا مراد:

توفي يوسف داي سنة 1637هــ/1047م بعد تماني و عشرين (28) سنة من الحكم و أعقبه "أسطا مراد"، الذي كان على رئاسة البحرية أيام يوسف داي، ويعود له الفضل في إنشاء مرسی غار الملح ، إذ اتصف هو كذلك بالحزم والمهابة، وحب العدل ، وقد أولى أمل الذمة باحترام كبير، ودأب على حمايتهم عند الظلم"(1) ،توفي الداي أسطا مراد بعد ثلاث سنين من الحكم عام 1050هــ/1640م (2).رابعا- أحمد خوجة:بعد وفاة أسطا مراد استلم مقاليد الحكم بعده الداي "أحمد خوجة"، الذي كان يشغل منصب الدفتردار( كاتب الديوان) ، حيث تولى الأمر بعد أن اجتمعت عليه الأغلبية، وقدشهدت فترة حكمه أحداثا خطيرة، كغلو الأسعار وتفشي الطاعون سنة 1053هــ/1643م، إذ دام سبع (07) سنين، حتى نسب هذا الوباء إلى الداي(3). كما تعرضت تونس في عهده إلى غارات فرسان مالطا(4) . إلا أنه وبالرغم من تتالي هذه الأحداث السيئة، فإن الإيالة التونسية تحت حكمه ساهمت في إخضاع جزيرة كاندي" المتمردة عن السلطان إلى جانب الأسطول العثماني، كما أنشأ فرقة جديدة سماها "الزمالة"، وتتألف هذه الأخيرة من نخبة رجال القبائل الموالية له، وقد كان الهدف من إنشائها هو ردع، وإخضاع أعراب الدواخل، توفي أحمد خوجةسنة 1647م / 1057 هــ (5).لقد تمكن الدايات من عهد عثمان داي (1598م-1610م)، إلى غاية أحمد خوجة من فرض سلطة ذات سيادة داخل البلاد وخارجها ، حيث عملوا على إعادة الأمن والاستقرار للمنطقة، وتمكنوا من إخضاع القبائل الثائرة، كما عني قطاع القرصنة والتجارة باهتمام كبير

------------------------------------
(1) ابن أبي الضياف: المصدر السابق، ص ص 47-46
 (2) المصدر نفسه، ص ص 47-48
(3) حسين خوجة: المصدر السابق، س4 .
 (4) كان ذلك في 24 أوت 1640م تحت قيادة الأمير لاندجراف دوزيا حيث تمكن من اشعال النار في العديد من المراكب التونسية بحلق الواد، مما اضطر السلطات التونسية إلى بناء حصن  جديد اثر ذلك مباشرة. أنظر ابن ابي دينار: المصدر السابق، ص211.
(5) ألفونس روسو: المرجع السابق، ص 121.



مرحلة ضعف الدایات و تنامي نفوذ البايات المراديين

أولا- حمودة باشا المرادي، وحصر نفوذ الدايات:

بعد وفاة أسطا مراد سنة 1640م، فكر حمودة باشا في الحد من النفوذ القوي للدايات، وقد سمحت له خمسة وثلاثون (35) سنة من السلطة بتطبيق سيادته بشكل محكم، حيث قام باستكمال مشوار أبيه القائم على قمع و إخضاع القبائل المتمردة، خاصة الواقعة على أطراف البلاد و ثغورها، كقبائل أولاد سعيد، وأولاد شنوف غرب البلاد، وقبيلة ورغمة بالجنوب، وجبالية عملون، وقد امتدت حملاته العسكرية حتى سنة 1645(1).لقد أتاحت السيطرة الواسعة لحمودة باشا على الأقاليم الداخلية للبلاد له فرصة تنظيم سلطته وتطويرها، حيث ركز اهتمامه على الجيش، و زوده بعناصر هامة من قبائل المخزن، بالإضافة إلى فرقة "الزواوة" التي استقدمها من بلاد القبائل بالجزائر، كما زاد من تعدد فرق الصبايحية بكل من تونس، القيروان، الكاف، و باجة مما أضفى على البلاد استقرارا، و أمنا أكثر، ولكي يستميل العامة ، قام يعقد تحالفات مع أعيان البلاد، الذين يملكون تأثيرا مباشرا على الفئة المحلية، من : رجال الدين، القيادة اللزامة، وبذلك حيث ضمن الباي ولاء أغلب الفئات البارزة في المجتمع، مما بوأه لأن يكون الحاكم الفعلي للبلاد، خصوصا بعدما تمكن من الحصول على لقب الباشا من الباب العالي سنة 1658م (2).قام حمودة بعد حصوله على الباشوية بتقسيم البلاد أقساما بين أولاده الثلاثة "مراد"، "محمد الحفصي" ، و "حسن". فقد ولی مراد أمر المحلة، وجعل بيد محمد الحفصي سنجق القيروان، وسوسة، والمنستير، و صفاقس، أما حسن فولاه سنحق إفريقية، و أطلق لقب الباي على كل واحد من أبنائه (3).سلك المراديون سياسة ملكية، أعادت الحياة للتقاليد السياسية الحفصية، حيث توارثوا خطة قيادة المحلة، واعتمدوا على مداخيل الجباية، وتحالفوا مع عدة قبائل ذات خبرة وتقاليد

------------------------------------
(1) دلندة الأرقش و أخرون: المرجع السابق، ص59.
 (2) المرجع نفسه، ص 59
 (3) محمد الباجي المسعودي: المصدر السابق، ص 94. أنظر أيضا: الوزير السراج: المصدر السابق، ص 428.



عريقة في الخدمة المخزنية، مثل قبيلة دريد، وذلك لإخضاع القبائل الخارجة عن سلسلة الدولة وبذلك تراجعت سلطة الدايات، لتقوم سلطة البايات المرادينأمام هذا النمو المتزايد لسلطة البايات، تحول الدايات إلى مجرد طائفة عسكرية مهمشة ترتبط بالتبعية لحمودة باي، حيث تعاقب أثناء فترة حكم هذا الأخير ثلاٹ دایات : أحمد خوجة (1640م۔ 1647م)، أحمد لاز(1647م۔ 1653م)، مصطفی لاز(1653م-1665م)، وقد مارس حمودة باشا تأثيره المباشر وغير المباشر على هؤلاء الدايات، وبأشكال مختلفة منها: أسلوب الهدايا والدبلوماسية، التدخل في عملية الانتخاب، التهديد العسكري، كما قام بإبعاد كل من حاول الاعتراض، والتمرد من قبل الدايات (1).

ثانيا- مراد الثاني والصراع المباشر: 

بعد وفاة حمودة باشا سنة 1666م، خلفه ابنه "مراد التاني"، وقد ساهم هذا الأخير بشكل واضح وصريح، في إسقاط نظام الدايات، حيث ناصبهم العداء المباشر، والدليل على ذلك تسارع سلسلة من الدايات تتعدى الثمانية أشخاص، في ظرف وجيز لا يتجاوز سبع (07) سنوات، من 1666م إلى 1673م.استهل مراد الثاني حكمه، بعزل الداي "مصطفى قارة قوز"، وعوضه بالحاج محمد أوغلو"(1666م-1669م)، وكان جواب أعضاء الديوان بعزله وتنصيب "الحاج شعبان خوجة"، دايا في جويلية 1666م، حيث عزل هذا الأخير من طرف مراد الثاني، وعوض بالداي "محمد منتشالي"، في أفريل 1672م(2)وقد تفاقمت وتيرة الصراع بين الباي مراد التاني وطائفة الدايات، حيث وصل ذروته في أفريل 1673م، أين استغل الدايات انشغال الباي مراد التاني بمهمة فرض النظام وإخضاع قبائل الدواخل، حيث نصبوا "محمد أغا" ، بايا على الأمحال، والحاج علي لاز" بمرتبة داي، وقاموا بملاحقة أنصار المرادين بالعاصمة، ومصادرة أموالهم(3) . و قد استعان الداي الحاج علي لاز ، بالقبائل الثائرة في وجه البايات أمثال: المثاليث، أولاد


---------------------------------------
(1) Boubaker Sadok: op. cit, p39.
(2) ابن أبي الضياف: المصدر السابق ، ص ص 55-56-57.
(3) دلندة الأرقش و أخرون: المرجع السابق، ص 60 .


سعید...، لكن الداي مني بهزيمة كبيرة في واقعة الملاسين، إذ مثل ذلك انتصارا للنظام الملكي المرادي بالإيالة التونسية (1).كانت هذه الحرب الأهلية الأولى من نوعها في تونس خلال القرن السابع عشر، إذ عکست محاولة الدايات لافتكاك السلطة دون نجاح، لكنها لم تكن الأخيرة ، فسرعان ما سيتفجر صراع من نوع أخر هذه المرة، حرب بين الإخوة

 3- تفاقم الصراع وبداية ضعف المراديين

 أولا-صراع الإخوة:

ترك الباي مراد الثاني بعد وفاته سنة 1675م/ 1086هـ ، أخا يدعى "محمد الحفصي"، وثلاثة أنجال، هم: "محمد" ، "علي" ، "رمضان"(2)وقد اتفقت أغلبية الأراء على تقديم الإبن الأكبر" محمد باي" لمنصب أبيه، وكان حينذاك في محلة الصيف، فبعثوا له شعار الولاية، وحف باستقبال كبير عند مقدمه، مما أثار ضغينة عمه محمد الحفصي، الذي ألب عليه أخاه، واستعان في ذلك بالداي "مامي جمال"، وقد استجاب هذا الأخير لطلبهما، رغبة منه في استعادة السلطة من جديد (3).استغل أعضاء الديوان الفرصة لتعميق الفرقة، وترسيخ الشقاق بين الأخوين، بهدف تصفية بعضهما البعض، حيث اتفق العم مع ابن أخيه، على أن يتنازل له عن الحكم أمام مجلس الديوان، على أمل التخلي له عن المنصب بعد أن يتم له الأمر، وكان له ذلك. لكن الأمر لم يرق لمحمد باي، وأعلن الحرب على عمه، و كانت النتيجة أن أبعد محمد الحفصي، إذ فشل في تعبئة الجيش ضد ابن أخيه حيث كان يلقى معارضة شديدة، واستعاد محمد باي الحكم في نفس السنة، و أمر أخاه بالخروج للمرسى(4).غادر العم الحفصي تونس متجها إلى طرابلس، ومنها إلى الأستانة؛ حيث نجح في إقناع السلطان بالحصول على لقب باشا تونس، وقفل عائدا إلى تونس من جديد أملا استعادة حكمه


-------------------------------------------------
(1) Boubaker Sadok: op. cit, p. 40.
(2) ابن أبي دينار: المصدر السابق، ص 233.
 (3) الوزير السراج: المصدر السابق، ص ص 452-453.
 (4) ألفونص روسو: المرجع السابق، ص 128.



من جديد، لكنه فوجئ بالرفض العنيف من محمد باي، وكل أعضاء الديوان، الذين تمكنوا من إيفاد بعثة للسلطان، شرحت له حقائق الأمور واستطاعت إقناعه بالعدول عن قراره (1).لم يدم الهدوء طويلا وتجدد الصراع مرة أخرى بثورة الأخ "علي باي"، الذي فر من مقر إقامته بالمرسي، والتجأ إلى باي قسنطينة بالإيالة الجزائرية "دالي باي"، حيث تحالف مع زعيم قبيلة الحنانشة(2)، إذ ارتبط معه بالمصاهرة، وبادر بقتال أخيه، وقد كانت له الغلبة في الدور الأول، حيث توجه إلى الحاضرة التونسية، وقام بعزل الداي مامي جمال وتعويضه بالحاج "محمد بيشارة"، كان ذلك في أوائل شهر مارس من عام 1677م، أواخر ذي الحجة من عام 1087هـ (3).لكن الأمر عاد فاستتب لمحمد باي، إذ هزم شقيقه بعد خروجه لمطاردته إلى بلدة الكاف، التي كان يتحصن بها، ثم رجع الأمر إلى علي باي، واستمر الصراع بينهما قرابة العشر (10) سنوات، وقد شاركت في هذا الصراع أطراف مختلفة، إذ لم ينته إلا بعد تدخل جزائري لصالح محمد باي سنة 1684م، وقتل أخوه في نفس السنة (4). لقد أفرزت عشر سنوات من الحرب الأهلية، إن صح التعبير نتائج سلبية وخيمة على الإيالة التونسية، نذكر منها: 

- ضعف وتدهور النظام المرادي و قصور سيادته على التراب التونسي 

- تبعية البايات المرادين لحكام الإيالة الجزائرية، والذي ترتب عنه الالتزام بدفع مبالغ مالية هذه الأخيرة مقابل دعمها لهم، الأمر الذي انعكس سلبا على خزينة الدولة.

 - تأثر الوضع الإقتصادي بالخسائر التي تسببت فيها الحروب، ومتطلبات تجهيز الجيش.

 ثانيا- محمد باي وثورة ابن شکر:

آل الأمر في نهاية المطاف إلى محمد باي ، حيث حكم ما يقارب الثماني سنوات (1686-1694) واجه فيها مشاكل عديدة، أهمها اصطدامه بثورة كاهيته "ابن شکر"


-----------------------------------------
(1) ألفونص روسو: المرجع السابق، ص 128-129. 
(2) زعيم قبيلة الحنانشة هو سلطان بن منصر الحناشي أنظر ابن أبي الضياف: المصدر السابق، ص 63.
(3) الوزير السراج: المصدر السابق، ص 458.
(4) ابن أبي الضياف: المصدر السابق ، ص61.


المتحالف مع كل من دایات الجزائر، وطرابلس(1) . حيث فقد محمد باي منصبه إثر هذه الثورة إذ حل محله ابن شكر، الذي قام بتعيين "محمد تتر داي"، وعمل منذ توليه الحكم على مصادرة أموال الناس، وفرض ضرائب استثنائية على جميع أصحاب المهن والحرف وذلك من أجل استيفاء المبلغ الذي طلبه الجزائريون مقابل دعمهم له (2) .وقد أطلق بن شكر أيدي الجند في المدن، فأكثروا من أعمال النهب و الإغتصاب، مما أثار ضغينة الناس عليه، فثار الناس في سوسة، والقيروان، ومدن أخرى. وفي الوقت ذاته استغل محمد باي المرادي الفرصة، و أحكم هجومه على القيروان، ثم زحف على العاصمة تونس، ولم تمض فترة وجيزة حتى استعاد حكمه من جديد، وأعاد الهدوء والسكينة إلى جميع ربوع الإيالة لكن الموت فاجئه في السابع عشر من شهر ربيع الأول 1108هـ/1696م إثر مرض عضال (3) .ثالثا-ولاية رمضان باي :تولى "رمضان باي" الحكم في 18 ربيع الأول 1108هـ/14 أكتوبر 1696م(4). حيث بويع بعد وفاة أخيه مباشرة، وكان ذلك بإجماع الأهالي وموافقة الجند الإنكشاري، وعلى رأسهم الداي "محمد خوجة"، الذي كان قد ولي بأمر من أخيه محمد باي سنة 1695م(5) ،وقد بدأ مشواره السياسي، بالتخلص من معارضي أخيه، حيث ابتدأ بعامل جربة "الشيخ محمد أبي الجلود" فقتله، ثم قضی علی فرحات بن القايد حسن" الذي غدر  بمحمد باي عند قتاله مع كاهيته محمد بن شكر في الجريد(6). وقد كان رمضان باي كثير الصمت، ولوعا بالموسيقى و الألحان، إلى درجة أنه لم يكن قادرا على تسيير شؤون البلاد بنفسه، وقد كان له مغن اسمه


------------------------------------------------
(1) داي الجزائر شعبان حسين خوجة، وداي طرابلس: محمد الإمام. أنظر: الوزير السراج: المصدر السابق، ص 460.
 (2) ألفونص روسو: المرجع السابق ، ص ص 142-143.
 (3) الوزير السراج: المصدر السابق، ص 590.
 (4) المصدر نفسه، ص 590.
 (5) ألفونص روسو: المرجع السابق، ص 146. 
(6) ابن أبي الضياف: المصدر السابق،ص84.




"مزهود" (1) بلغ عنده مرتبة خاصة لم يبلغها غيره إلى درجة أن حكمه في أمور البلاد، ولم يكن هذا الأخير كفؤا لهذه المترلة، فأكثر من الفساد ، واقترف أمورا شنيعة، منها قتله للشيخ حمودة فتاتة"(2).وقد جلب هذا النفوذ المطلق للمغني مزهود نقمة عدد كبير من أعضاء الحكومة، كما سبب استياءا، وتذمرا شعبيا واسعا، مما جعله يفكر في توجيه أنظار العامة إلى شخص أخر، فتسبب في الوقيعة بين رمضان باي وابن أخيه "مراد بن علي باي"، حيث قام بسجنه على الفور في حبس قصر الباردو، وبعد محاولته الهرب، حكم عليه بسمل عينيه، لكي ينقضي أخر أماله في الملك، لكن بعض مقربي مراد باؤ تمكنوا من استمالة الجراح الموكل إليه الأمر، وطلبوا منه التظاهر بالفعل، مع عدم إحداث الضرر، و كان لهم ذلك (3).و ظل مراد باي حبيس قصر الباردو، إلى أن خرج عمه رمضان بمحلة الشتاء فاصطحبه معه إلى سوسة، وسجنه بقلعتها، ثم اتجه قاصدا صفاقس، وقد استغل مراد باي هذه الفرصة ليتفق مع خدمه في أمر الهروب وقتل السجان، وبالفعل فقد نجح في ذلك، وارتحل إلى جبل وسلات الذي سارع أهله في الانقياد إليه وطاعته (4).وقد تسببت هذه الحادثة في انقلاب العامة على رمضان باي، حيث خذله أغلب جنده ولم يبق معه إلا فئة قليلة من خاصته، مما جعله يؤثر الهروب، لكنه لم يفلح في ذلك ، فالتجأ إلى حرم الولي الصالح سيدي أبي راوي" بسوسة. وفي غضون هذه الأحداث، نزل مراد باي من جبل وسلات واتجه إلى القيروان فبايعه أهلها في التاسع (09) من رمضان 1110هـ/14 مارس 1699م، ولما استتب له الأمر، أمر بقتل عمه، بعد أن تمكن من القبض على مزهود(5).


---------------------------------------------
(1) يذكر صاحب الذيل، أنه علج من أصل فلورنسي، أما صاحب الحوليات فيقول أنه بندقي، أنظر حسین خوجة: المصدر السابق، ص 186،
 و كذلك ألفونص روسو: المرجع السابق، ص146.
 (2) ابن أبي الضياف: المصدر السابق، ص ص 84-85-86. 
(3) ألفونص روسو. المرجع السابق، ص ص 146-147. 
(4) ابن أبي الضياف المصدر السابق، ص ص87-88.
(5) المصدر نفسه، ص ص 88.



4- مراد باي الثالت و نهاية الدولة المرادية :

بويع مراد باي بالحاضرة التونسية يوم 14 من رمضان، أي بعد خمسة (5) أيام من مبايعته بالقيروان، وهو لم يبلغ من العمر سوى ثماني عشرة (18) سنة، وقد باشر بالفور في تعيين أغا فرسان الصبايحية "دالي محمد" دايا للإيالة(1).كان مراد باي يكثر من التشكي من ألم عينيه، حيث نجح في استعطاف العام و الخاص وأقنعهم بضرورة التشفي ممن فعل به ذلك، وقد ابتدأ حسابه بمقربي عمه رمضان باي، وعلى رأسهم مزهود، فأذاقهم أنواع العذاب، ثم أمر بقتلهم، وكان هذا مستهل عهده الدموي(2).۔ وقد أجمعت المصادر على اقترافه أمورا فظيعة، لا يكاد يصدقها العقل، ويأنف من ذكرها اللسان؛ حيث استهدف العلماء، والساسة والجند، ولم يسلم منه العوام. و اتصف بالغدر، إذ نكّل بأهل باجة، والقيروان، وفعل نفس الفعل مع أهل الجريد(3).وبعد استقرار مراد باي في منصبه، قام بإرسال الرسل والهدايا إلى حكام الجزائر، حيث قوبلت بالرفض، حيث أظهر هذا الأخير له العداوة، وقد كان هذا سببا كافيا لأن يعزم على تغزوهم، فعقد مجلسا للديوان بشأن هذا الأمر و جمع جنده، كما تحالف مع "خليل باي" داي طرابلس(4) . إذ توجه إلى قسنطينة على رئس محلة قوامها خمس وعشرون (25) مدفعا(5). فخرج إليه باي قسنطينة "علي خوجة"، وكان بينهما قتال عنيف ، حيث كانت الغلبة أول الأمر لمراد باي، إلا أنه لم يستثمر هذا النصر وفضل الراحة في حين استغل أهل قسنطينة الوقت لتقوية الجيش، وأخذ الاحتياطات اللازمة، مما استحال على مراد باي اقتحامها، فاضطر إلى حصارها ، و وصلته نجدة خليل باي، واستمر الحصار مدة خمسة أشهر تمكن خلالها من إفتكاك قلعة قسنطينة، واستولى على مدافعها(6).


----------------------------------------
(1) ألفونص روسو: المرجع السابق ، ص 147. 
(2) الوزير السراج: المصدر السابق، ص ص 338-339 .
(3) ابن أبي الضياف: المصدر السابق، ص ص 91-92
 (4) المصدر نفسه، ص92.
(5) الوزير السراج: المصدر السابق، ص 647.
 (6) ألفونص روسو : المرجع السابق، ص 149.


تواصلت النجدات من العاصمة الجزائرية إلى قسنطينة، والتقى الجمعان في التاسع عشر (19) ربيع الثاني 1112هـ أكتوبر 1700م، في موقع يدعى "جوامع العلماء"، حيث تمكن الجزائريون في نهاية المعركة من هزم القوتين المتحالفتين، فاضطر مراد باي إلى الفرار للعاصمة التونسية(1). وقد عزم مراد باي بعد انهزامه على معاودة الهجوم على الجزائر، فبعث بأغا الصبايحية "إبراهيم الشريف" لاستجلاب العساكر المتطوعة من الدولة العثمانية، لكنه صادف رسل الجزائر باسطمبول، فأقر السلطان مصطفی خان" الصلح بينهما، لكن مراد باي رد بالامتناع و التصميم على الحرب. ولما علم السلطان بما أقدم عليه مراد پاي من إسرا،ف في القتل والجور، أوكل إلى مبعوثه إبراهيم الشريف مهمة التخلص منه، وكان ذلك في 13محرم 1114هـ/10جوان 1702م.، حيث تتبع نسل الأسرة المرادية و أفناه عن آخره، و بذلك انتهى عهد المراديين بالإيالة التونسية (2) 5- ولاية إبراهيم الشريف (3):تولى إبراهيم الشريف الأمر بعد مراد باي، حيث نال هذا الأخير منصب الباشا من السلطان العثماني سنة 1115هـ/1703م، وصار يوقع مراسلاته "إبراهيم الشريف باي باشا داي"(4).لقد استغل إبراهيم الشريف القطيعة التي كانت تميز علاقة الأهالي بالعائلة المرادية ، وتمكنه من قتل مراد باي في استقطاب العامة، و حيازتهم لصفه من جهة ، وفي إرضاء فئة الدايات الذين سئموا سياسة التهميش و الاضطهاد من العائلة المرادية.لكن هذا الوفاق لم يدم طويلا ، خصوصا و أن البلاد كانت تشهد أوضاعا طبيعية و اقتصادية حرجة، كما أن الاضطراب السياسي الذي كانت تعيشه البلاد حد من مدخول القرصنة الذي كان يشغل حيزا كبيرا في خزينة الدولة، فانقلب إبراهيم الشريف على الأهالي


-------------------------------------
(1) ألفونص روسو: المرجع السابق، ص 149.
(2) ابن أبي الضياف: المصدر السابق، ص ص 93-94-95. 
(3) يمثل عهد إبراهيم الشريف (1702-1705م) مرحلة انتقال بين الأسرة المرادية و الأسرة الحسينية، فبسبب رفض مراد الثالث أوامر السلطان العثماني مصطفى عن التوقف عن قتال الجزائريين، حينئذ أوعز السلطان إلى إبراهيم الشريف بالتخلص من مراد باي سنة 1702م 
(4) محمد الباجي المسعودي: المصدر السابق، ص 101.



ومارس الإستبداد، والظلم الذي ثار ضده بادئ الأمر(1) . وقد واجه هذا الأخير فور تنصيبه، ثورة أحد موالي مراد باي يدعى "علي الصوفي"، الذي تحصن بقلعة سنان و شرع يستقبل المناصرين من الأعراب، لكن سرعان ما خمدت ناره وتمكن من قتله في قلعته(2).وفي عهده وقعت القطيعة بين تونس وطرابلس، وسبب ذلك أن خليل باي صاحب طرابلس كان قد استولى على هدية تحوي مجموعة خيول نادرة، أرسلت من مصر إلى تونس، وعلى سفينة تجارية تونسية مجهزة، حيث عزم الشريف باي على قتال صاحب طرابلس(3) . وقد استغلت إيالة الجزائر الفرصة، فوعدت كل إيالة على حدى بالدعم والسند، وقد كان لها غرض في ذلك؛ إذ كانت تشهد عجزا ماليا كبيرا، وكانت تأمل أن تسد هذا العجز بالمكاسب التي تجنيها من الحرب، و بالفعل فقد أرسل داي الجزائر السند الموعود به إلى الإيالة التونسية ، مرفقا بطلب استيراد شحنات من القمح، لكن إبراهيم الشريف قابل هذا الطلب بالرفض الصريح بحجة أن بلاده هي الأخرى تعاني أوقاتا عصيبة (4).لم يكن في صالح إبراهيم الشريف رفض الطلب الجزائري، خصوصا و أنه كان في حرب مع الطرف الطرابلسي، إذ جلب هذا الرفض نقمة الجزائريين الذين أعلنوا الحرب على الإيالة التونسية، ووقعت هذه الأخيرة فريسة الحرب الإستترافية، ومما زاد الوضع تعقيدا تفشي الوباء في جند الإيالة التونسية (5).لقد زادت هذه الحروب من عزلة إبراهيم الشريف، حيث انتهى الأمر بهزيمته، وأسره في 1117هـ /09 جويلية 1705م، من طرف الجزائريين، وتولى كاهيته "حسين بن علي" منصب الباي بعده(6).لقد شهد النظام المرادي خلال الربع الأخير من القرن السابع عشر، أزمات مختلفة تنوعت من حيث طبيعتها، إلا أنها اشتركت من حيث تأثيرها السلبي على البلاد، نذكر من


----------------------------------------------
(1) دلندة الأرقش و أخرون و آخرون: المرجع السابق، ص 61
 (2) ابن أبي الضياف: المصدر السابق، ص 98
 (3) ألفونص روسو: المرجع السابق ، ص ص 152-153 .
 (4) المرجع نفسه، ص 153 
(5) المرجع نفسه، ص ص  153-154.
 (6) حسين خوجة: المصدر السابق، ص 108.


بينها تراجع المبادلات التجارية، وتدني الإنتاج، وظهور المجاعات والأوبئة من 1676م - 1689م واندلاع الصراعات الداخلية، التي أججها تنافس الأخوين محمد وعلي إبني مراد الثاني للإنفراد بالحكم، الأمر الذي تسبب في تدخل أوجاق الجزائر، في ثلاث مناسبات وذلك خلال أقل من عقدين من الزمن في سنوات 1686م، 1694م، 1705م، ومما زاد الأمر سوءا، الفوضى التي عمت البلاد نتيجة سياسة الباي مراد الثالث (1699م - 1702م) المزاجية و الدموية، والتي مهدت الفرصة لآغا الصبايحية إبراهيم الشريف بمساندة من الأستانة، لإزاحة جميع أفراد البيت المرادي و استئصالهم، وإعادة الحكم من جديد بيد ممثلي الانكشارية، لتنتصب على إثرهم سلالة جديدة مع مطلع القرن الثامن عشر عرفت بالأسرة الحسينية.وبعد استعراض أهم ملامح الوضع السياسي لإيالة تونس خلال القرن السابع عشر، يمكننا تعديد جملة من الخصائص تميز بها هذا القرن، نذكر أهمها:1- الاضطراب السياسي ، والذي يفسره مرور النظام العثماني بالإيالة التونسية، بعدة تطورات؛ حيث تسببت فيها عدة أزمات، فمن سلطة التمثيل المباشر التي تتجسد في شخصية الباشا، إلى سلطة عسكرية تمثلت في شخصية الداي، إلى سلطة وراثية هي أقرب للملكية جسدها الباي المرادي. 2- الاستقلال التدريجي للإيالة التونسية عن الدولة العثمانية، وقد تجلى ذلك في سقوط نظام الباشوات، الذي يفرض تبعية الإيالة للباب العالي في العشرية الأخيرة من القرن السادس عشر، حيث لم يعد للباشا سوى المنصب الشرفي .3- الصراع الخفي، والمعلن بين ممثلي النظام العثماني، والفئات المحلية المتمثلة في القبائل، والمجتمعات الريفية والمدنية، والذي يثبته التمرد المتكرر .
4- التنافس الجلي على السلطة، والذي يفسره الصراع القائم بين فئتي البايات، والدايات طوال القرن السابع عشر.





تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة